د. عصام تليمة
هناك ملف مهم في رحلة شيخنا القرضاوي العلمية والعملية، من حيث كونه شخصية إسلامية عامة، قامت بدور كبير على عدة مستويات، ومنها بلا شك المستوى السياسي والمجتمعي، ومن أهم هذه الملفات الشائكة: قصته مع الشيعة، تلك القصة المتنقلة بين عدة مراحل، التي بدأت بتأييد معلن لأحد أهم الأذرع الشيعية وهو حزب الله في لبنان، وزيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستقباله على أعلى المستويات، ثم آلت إلى مرحلة الفراق، وكتابة كتاب كامل عن موقفه من الشيعة، بل مجلد كبير، انتهى من كتابته في آخر حياته، ثم نُشر بعد وفاته رحمه الله.
ولأنه كلما حدث حادث معين، فيه اشتباك فكري أو فقهي أو سياسي متعلق بالموضوع، يتم استدعاء رأي القرضاوي، سواء من فيديوهات مختصرة، أو لمحة من موقف، فكان من المهم أن تروى القصة متكاملة، لتحسن الاستفادة منها، بعيدا عن أي توظيف هنا أو هناك، مع أو ضد القرضاوي.
مراحل رحلة القرضاوي مع الشيعة
ويمكننا تقسيم قصة القرضاوي مع الشيعة إلى أربع مراحل، المرحلة الأولى: مرحلة التقارب النظري مع الشيعة. والثانية: مرحلة التقارب الفعلي والواقعي معهم. والثالثة: مرحلة الفراق والصدام، وتغير وجهات النظر بناء على مستجدات في الواقع. والمرحلة الرابعة: ما أعتبره مرحلة إبداء الرأي العلمي، المبني على خلاصة تجربته في الموضوع قراءة وممارسة، الذي نتج عنه كتابه: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، مضافا إلى مواقفه بعد الانقطاع الاختياري منه عن وسائل الإعلام، والحديث في الشأن العام، لرؤية لديه، ربما يأتي وقت للحديث عنها لأهميتها.
القرضاوي ابن الأزهر والإخوان ومصر التقريب
نشأ القرضاوي في الأزهر ومعاهده العلمية المعروفة بوسطيتها واعتدالها، التي كانت في وقت دخوله إياها في أوج تألقها العلمي، واشتباكها مع الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية، فمن المعهد الأحمدي في مدينة طنطا الذي درس فيه كانت تخرج المظاهرات، وبحكم أن هذه المدينة من المدن المحورية في مصر آنذاك، كان يأتيها كبار الدعاة والخطباء والسياسيين.
ومن الأحداث المهمة التي شهدها القرضاوي في مصر، زيارة نواب صفوي لمصر، وهو زعيم إيراني معارض لطغيان الشاه، وكان زعيما لحركة “فدائيان إسلام” الشهيرة، وكان في زيارة للقاهرة، فدعاه طلبة الإخوان في جامعة القاهرة، في حفل أقاموه احتفالا بشهداء الجامعة، ونتج عن ذلك صدام وعراك بين طلبة “هيئة التحرير” الذين يحسبون على تنظيم الجيش آنذاك بعد ثورة يوليو بعامين، وبين طلبة الإخوان، ونتج عن ذلك اعتقال القرضاوي للمرة الأولى في عهد الحكم العسكري.
لم يحدث أن التقى في هذه المرحلة حتى مغادرته مصر بالشيعة لقاءات علمية، إلا من حيث اللقاء الفكري قراءة واطلاعا، وبعد تخرجه، تم اعتقاله ودخوله السجن لانضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، وخرج من السجن عام 1956، وعمل فترة في وزارة الأوقاف، ثم انتقل للعمل في مشيخة الأزهر، في إدارة الثقافة الإسلامية، تحت إدارة الدكتور محمد البهي، ليقوم بعمل مهم، هو جمع تراث الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وقد كان شلتوت من أنشط علماء الأزهر في نشاط التقريب بين المذاهب الإسلامية: السنة والشيعة، وكانت تصدر من مصر مجلة “رسالة الإسلام”، عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة.
وهذا ما يفسر لنا: لماذا نفى القرضاوي صدور فتوى عن شلتوت تجيز تعبد السني على المذهب الجعفري؟ فقد انتهى القرضاوي من جمع تراث شلتوت سنة 1959م، وبعدها بعام سافر للعمل في دولة قطر مديرا للمعهد الديني، وفتوى شلتوت صدرت بعد ذلك بسنوات قليلة، قبل وفاة شلتوت بمدة زمنية قليلة، ولم تجمع في تراثه ولم تنشر في أي من كتبه، فقد كان القرضاوي يتحدث عن تراث شلتوت وهو أعرف الناس به، لأنه جمعه مع صديقه أحمد العسال من المجلات والصحف، وقاموا باستقراء تراث الرجل كله، لكن الفتوى صحيحة عن شلتوت، وقد صدرت عنه بالفعل بعد ذلك.
كان القرضاوي وجيله في هذه الفترة، من الشباب الذين يجمعون بين دراستهم الأزهرية وانتمائهم الإخواني، موقفهم من الشيعة موقف التقريب وتنحية التعصب المذهبي، ولأنه لا يوجد في مصر شيعة، فلا يوجد احتكاك سياسي أو يومي ينتج عنه مواقف تصنع مواقف أو تبني رؤية من هذا الواقع، وليس معنى ذلك عدم صحة من اتخذوا هذا النهج موقفا، بل هو توصيف لواقع ومرحلة، لأنه سيفسر مواقف القرضاوي فيما بعد.
السفر إلى الخليج وعلاقته بأتباع المذاهب الأخرى
ثم سافر القرضاوي إلى دولة قطر سنة 1961م، والمعروف أن جل دول الخليج فيها مواطنون ومقيمون شيعة، واستطاع القرضاوي بفكره الذي ينبع من مدرستيه اللتين انتمى إليهما علما وحركة، أن يكون صمام أمان في المجتمع الجديد، وفي كل دول الخليج المحيطة، التي كان يذهب لإلقاء المحاضرات والندوات فيها، وكان فكره الذي بدأ ينطلق من وسائل الإعلام المتاحة آنذاك في قطر إلى دول الخليج، يشع فقها وفكرا، يعزز روح التسامح، وروح العيش المشترك بين مكونات المجتمع، باختلاف مذاهبها.
ففي هذه الفترة التي تصل إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان القرضاوي ابن بيئته العلمية والأزهرية والإخوانية، التي تميل إلى الوحدة والتقارب، والبحث عن عوامل الاشتراك لا الاختلاف، وإن اطلع بشكل موسع على المذاهب الإسلامية الأخرى، خارج دائرة المذاهب الأربعة، ومن يقرأ كتابه “فقه الزكاة”، يجد تعمقا على مستوى المذاهب الأخرى، وعلى رأسها الشيعة الإمامية والزيدية.
كما كان محبوبا من الجميع، فليس في خطابه ولا فتاواه، ما يخيف أو يقلق الآخر منه، سواء كان الآخر دينيا أم مذهبيا، ولذا نال محبة وتقدير الخليج العربي، وبلدان العالم الإسلامي قاطبة، وكتب له القبول والمحبة، لما اتسم به فكره من وسطية واعتدال، مع جرأة في قول الحق، ومواجهة الخطأ، وليس في خطابه وممارسته ما يفخخ المجتمع، ولا ما يدعو إلى الفرقة، أو صنع حزازات مع نسيج المجتمع المختلف.
تلك مرحلة عاشها القرضاوي، وعاشها جل جيله، وكل من تعلم ودرس على هذا المنوال، مرحلة الموقف النظري من التقارب مع الشيعة، أو الموقف الفكري والفقهي، الذي لم يصل إلى مرحلة اللقاء والمناقشة والمحاورة، والعمل على أهداف مشتركة، وهي مرحلة تلتها مباشرة، تحتاج إلى حديث منفرد، نلم به قدر الاستطاعة في مقالنا القادم إن شاء الله.
.....
- المصدر: الجزيرة مباشر