د. أحمد القديدي

نواصل نشر حلقات الحوار الثري بين الشيخ يوسف القرضاوي والمستشرق أستاذ العلوم السياسية في باريس «جيل كيبيل» وإدارتي أنا، وجميعنا مهموم بقضايا العلاقات المعقدة بين الإسلام والغرب ومكانة الفكر الإسلامي في إصلاح وتنوير المجتمعات المسلمة، ولكل منا موقعه والزاوية التي ينظر منها لهذه المسائل المشتركة.

يستمر الشيخ يوسف في تحليل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فيقول لنا: «حتى بعد زمن من ذلك التاريخ لم يقدم المحققون برهانًا قاطعًا على أن أسامة بن لادن هو المخطط والمنفذ للهجومات، فكل من كان على متن الطائرات قضى نحبه ثم ظهر بالحجة أن بعض المتهمين بارتكاب هذا الإرهاب هم أبرياء وزورت وثائقهم، وسبق أن ناديت شخصيًا بتدويل التحقيق لا الاقتصار على تدويل الحرب على أفغانستان والعراق..

ثم على افتراض أن بن لادن هو الفاعل والمدبر لهذا العمل الإجرامي ومنفذه بمعية جزء من حكومة طالبان؛ فلماذا وما هو مبرر أن يقرر الرئيس بوش تدمير بلاد كاملة وقصف مدنها ومعاقبة الأبرياء منها، وتأكد لنا بعد ذلك أن العديد من الضحايا لم يسمعوا بما وقع في 11 سبتمبر ولم يسمعوا أبدًا بوجود رجل اسمه أسامة بن لادن، كما تبين أن أغلب أهل الريف من الأفغان يعيشون في أوضاع شبيهة بالعصر الحجري بعد تدمير السوفييت لكل البنية التحتية والجسور والسدود ما عطل الزراعة وجوع الناس!».

وأضاف الشيخ يوسف قائلًا: «منذ أيام زارني الملحق بالسفارة الأمريكية هنا وكان يجلس في نفس مكانك (مخاطبا كيبيل) وقلت له: أنتم خصصتم أربعين مليار دولار للقضاء على بن لادن والانتقام من طالبان، وأعتقد أنكم خسرتم هذه الأموال الطائلة دون تحقيق أي مكسب، ثم حين قتلتم بن لادن (في عهد أوباما) حولتموه إلى رمز والرمز لا يموت!»، وهنا تساءل «جيل كيبيل»: «بقطع النظرعن بن لادن، فكيف تفسرون فضيلة الشيخ سياسة حركة طالبان، ونحن في الغرب لا نفهم كيف تسن سياسة شعب من الشعوب خارج العصر وتستند فقط إلى تفاسير حرفية للنص القرآني والسنة؟".

وأجابه الشيخ يوسف: «أثناء الغزو السوفييتي الشيوعي لشعب أفغانستان كان العالم الإسلامي كله منددًا بالاحتلال الأجنبي لجزء من الأمة الإسلامية، وكنا طبعًا مع الفصائل الأفغانية المجاهدة المقاومة للغزاة، وعرفنا زعماءهم أمثال رباني وحكمتيار وعبد الرسول سياف ويونس خالص، بل وتطوع آلاف الشباب المسلم من عرب وعجم لمعاضدة إخوانهم الأفغان، وكانت النتيجة انتصارهم على عدوهم الغازي السوفييتي، لكنهم لم ينتصروا على أنفسهم فحلت الفرقة وتفاقم الشقاق وبدأت حرب أهلية أكثر تدميرا من الغزو!

وفي خضم تلك الحرب الأهلية كبرت حركة طلابية، نشأت في المدارس القرآنية في بيشاور وتسلحت وشرعت في لم شمل المجاهدين وبلورة نهج جامع لمختلف الفصائل، ووفقهم الله إلى إنهاء الفتنة، ثم وضع هؤلاء الشباب أيديهم على 90% من مقدرات البلاد وحقنوا دماء المسلمين، وأنا عرفتهم عن كثب فوجدت أن أغلبهم قراء الكتب الإسلامية القديمة وليست لديهم خبرة في إدارة شؤون الدولة أو ممارسة السلطة؛ وهو ما يجعلني أخشى على مستقبل أفغانستان».

وتدخلت أنا للقول بأن السياسة الأمريكية الخارجية تستهدف أفغانستان ليس من اليوم بل منذ رئاسة الرئيس «دوايت إيزنهاور من 1952 إلى 1960 (عهدتان) وهو الذي قال في كتاب مذكراته الصادر عام 1960 بإعانة الصحفي الأمريكي «ستيفان أمبروز»: «عيننا على العراق وأفغانستان لأنهما الحلقتان الأقوى في سلسلة الوحدة الإسلامية المرعبة للغرب والمهددة لهيمنته إذا ما تحققت!».

أضاف الشيخ يوسف: «وكل هذا لا يبرر احتلال أفغانستان الهزيل من أمريكا وهي قوة عسكرية وسياسية عظمى؛ لأن الاحتلال لا يحل مشكلة ولا يعيد حقوقًا ولا يبني وطنا حرًا».

سأل «كيبيل» الشيخ عن موقفه من المسلمين الأمريكان الذين يقاتلون طالبان ضمن الجيش الأمريكي فهل يجوز ذلك؟

أجاب الشيخ بأن المفكر الأستاذ محمد سليم العوا أثار هذه القضية؛ لأن هذا وقع في حرب الخليج حيث كان من ضمن ضباط الجيشين الأمريكي والبريطاني مسلمون، وأنا أقول إن الأصل هو ألا يجوز للمسلم محاربة المسلم وفق حديث نبوي جاء فيه إن سباب المسلمين فسوق وقتال المسلمين كفر والقاتل والمقتول منهم كلاهما في النار، وسأل أحد الصحابة رسول الله والمقتول أيضًا؟ فقال الرسول نعم لأنه استعد للقتل كذلك.

واصل الشيخ يوسف قائلًا: «أنا عبّرت عن رأي في القضية مسترشدًا بفقه الموازنات؛ لأن الجندي المسلم هو مواطن أمريكي أيضًا يمكن أن يتخلص من هذا الأمر بأقل الأضرار، لا أن يعصي الأوامر وهو ما ينجر عنه أذى كبير له"، وهنا تدخلت أنا لأضرب مثَل الملاكم الأمريكي المسلم محمد علي كلاي الذي رفض المشاركة في قتال الفيتناميين في السبعينيات؛ لأن حرب دولته على فيتنام لا شرعية لها؛ وتحمّل الملاكم البطل محنة السجن لتمسكه بقانون يسمى «عصيان أمر لمناقضته للضمير» ‏Conscience ‘s objection

وشرحت أن موقف الملاكم يشرفه؛ لأنه أثبت أن مشاركته في قتل الفيتنامي في وطنه يتعارض مع ضميره وعقيدته الدينية. وذكرت كذلك مثال الرئيس الأسبق بيل كلينتن الذي رفض الانخراط في حرب فيتنام لنفس الأسباب، بالإضافة إلى تبرير عصيانه بكونه هو من أنصار دعاة السلام.

ثم انتقل الحوار إلى موضوع «الفتنة» وهي مرحلة تاريخية مؤسسة لكل تاريخ المسلمين منذ ذلك العهد، وكنت من قبل تحادثت مع «جيل كيبيل» عن أعمق وأشمل كتاب حلل الفتنة الكبرى صدر باللغة الفرنسية للمفكر المؤرخ التونسي هشام جعيط بعنوان ‏La grande discorde (ed.gallimard)

وكان ذلك حين سألني كيبيل عن ترجمة فرنسية أمينة لكلمة الفتنة، وقلت له آنذاك إن أفضل ترجمة هي لهشام جعيط، وأفضل عمل أكاديمي مبسط لتاريخها هو هذا الكتاب.

وعلق الشيخ يوسف على معنى الفتنة فقال: «مرت الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر بفتنتين، الأولى بدأت ليلة 2 أغسطس 1990 بغزو صدام حسين للعراق، والثانية اندلعت يوم 11 سبتمبر2001 بالهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن». وهنا أنهي هذا الجزء لأعود إلى إتمام الحوار بيننا نحن الثلاثة حول فتنة العصر الحديث وخلفياتها وتداعياتها في الجزء الثالث من الحوار.

.....

- المصدر: صحيفة الشرق القطرية، 1-8-2022