د. يوسف القرضاوي
هناك سُنن للوقوف بعرفة، وهي:
1- أن يذهب من منى إلى نمرة ويظل بها حتى تزول الشمس:
يُسَنُّ الذهاب من منًى إلى عرفات بعد طلوع شمس يوم التاسع، ولا يدخل الحجيج عرفات، بل ينزلون بنَمِرَة، وهي موضع بجوار عرفات، وليست منه، ويظلون بها حتى تزول الشمس أي حتى يحين وقت الظهر، فيسير بعد الزوال إلى عرفات.
2- كثرة الذكر والدعاء والتلبية في الطريق من منى إلى عرفات:
هذا، ويستحبُّ الإكثار من الذكر والدعاء والتلبية عند الخروج من منًى، ويكره الاشتغال بأمور الدنيا كثيرًا.
3- الجمع بين الظهر والعصر:
ثمَّ يؤذِّن المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمع تقديم مع قصرهما؛ اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم خطب، ثم أذَّن بلال، ثم أقام، فصلَّى الظهر، ثم أقام فصلَّى العصر، لم يصلِّ بينهما شيئًا، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف (1).
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلَّى مع الإمام (2).
سبب الجمع:
وقد اختلف الفقهاء في سبب الجمع، هل هو لأجل النُّسُك أو لسبب السفر؟
يرى أبو حنيفة أنّه بسبب النُّسُك؛ ولذلك فلا يجمع بين الصلاتين؛ إلَّا من كان مع الإمام، فمن صلَّى في رحله، فلا يجمع، بل يصلي الظهر لوقته، ويصلي العصر لوقته، أما المنفرد فلا يجمع؛ لأنَّ المحافظة على الوقت فرض، فلا يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به، وهو الجماعة، والتقديم إنما شرع لصيانة الجماعة؛ لأنّه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد التفرُّق في الموقف؛ ولذلك كان الإمام شرطًا لصحة الجمع بين الصلاتين في يوم عرفة (3).
ويرى جمهور الفقهاء ومحمد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة أنَّ الجمع لأجل السفر، ولأجل امتداد الوقوف الذي هو أعظم أركان الحج، ولأجل الانشغال بالدعاء لمصالح الدين والدنيا، فيُسن للمنفرد كما يُسن للجماعة.
قصر الصلاة للمكي:
واختلف الفقهاء في جواز القصر للمكي في منًى وعرفة ومزدلفة، فقال مالك والأوزاعي وجماعة: إنه يجوز؛ لأنه سُنَّة هذه المواضع.
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر مَن كان مِن أهل تلك المواضع.
وحجة مالك أنه لم يُروَ أن أحدًا أتمَّ الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، أعني: بعد سلامه منها.
وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف، وهو أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص (4).
4- الوقوف عند الصخرات وجبل الرحمة:
ويستحبُّ أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة موقف النبي صلى الله عليه وسلم، أو يقف بالقرب منها إن أمكنه ذلك بلا مشقة، ولكن لا ينبغي للحاجِّ أن يُتعب نفسه ويتجشَّم في الوصول إلى جبل الرَّحمة؛ لأنه يجوز له الوقوف في أيِّ مكانٍ من صعيد عرفات، خاصَّةً في هذه الأيام التي يكثر فيها الحجَّاج المتواجدون في عرفات، والذين يزيدون في عصرنا على ملايين ثلاثة، فلو أنَّ كلَّ الحجَّاج أرادوا أن يقفوا على الصَّخرات كما وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لحدث ما لا يُحْمَد عُقْباه من الإصابات بين جموع الحجَّاج نتيجة التدافع، كما يحدث عند رمي الجمرات.
فالأفضل الوقوف في أيِّ مكانٍ من صعيد عرفات الطاهر، خاصةً للنِّساء وكبار السنِّ وذوي الأعذار، وفي ذلك موافقةُ السنة أيضًا، لظاهر الحديث: "وعرفةُ كلُّها موقِفٌ"(5).
5- استقبال القبلة:
ويستحب أن يستقبل القبلة لما جاء في حديث جابر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرات واستقبل القبلة (6).
6- الاغتسال والطهارة من الحدث قدر الإمكان:
ويستحبُّ الاغتسال قبل الوقوف بعرفة، والمحافظة على الطهارة الكاملة أكبر وقت ممكن، والإكثار من الذكر والتهليل والتكبير، والدعاء بما شاء من أمر الدنيا والآخرة، مع التضرع والخشوع وحضور القلب ورفع اليدين، فإنَّ الدعاء في هذا اليوم مجاب.
7- عدم صوم يوم عرفة ليقوى على الذكر والدعاء:
ويستحبُّ لمن وقف بعرفة أن يكون مفطرًا، لما في ذلك من القوة على الذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة مفطرًا، ففي حديث أم الفضل بنت الحارث: أنَّ ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقَدَح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة، فشرب (7). وعن ميمونة مثله (8).
أما غير الحاج، فالسنة أن يصوم يوم عرفة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده"(9).
ويوم عرفة من الأيام الفاضلة، تُجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران.
ولذلك ينبغي للمسلم حاجًا أو غير حاج أن يعتني بالدعاء فيه بجد وإخلاص، فيدعو بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وبغيره، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الدعاء، دعاء يوم عرفة. وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له"(10).
قال الإمام النووي: «ويكثر من التلبية رافعًا بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها، فتارة يهلِّل، وتارة يكبِّر، وتارة يُسبِّح، وتارة يقرأ القرآن، وتارة يصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يدعو، وتارة يستغفر. ويدعو مفردًا، وفي جماعة، وليدعُ لنفسه ولوالديه ومشايخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبائه، وسائر من أحسن إليه، وسائر المسلمين، وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا، فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه بخلاف غيره.
وينبغي أن يكرِّر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، وأن يكثر البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تُسكَبُ العبرات، وتُستقال العثرات، وترتجى الطلبات، وإنه لمَجْمَع عظيم، وموقف جسيم، يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين، والخواص من المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا.
وقد قيل: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غُفر لكل أهل الموقف. إلى أن قال: ومن الأدعية المختارة: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا كبيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني رحمة أسعد بها في الدارين، وتب عليَّ توبة نصوحًا لا أنكثها أبدًا، وألزمني سبيل الاستقامة، لا أزيغ عنها أبدًا، اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، واكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك، ونوِّر قلبي وقبري، واغفر لي من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسِّرْني لليسرى، وجنِّبْني العسرى، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، أستودعك مني ومن أحبابي وجميع المسلمين أدياننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، وأقوالنا وأبداننا، وجميع ما أنعمت به علينا»(11).
.....
(1) رواه مسلم في الحج (1218)، وأبو داود في المناسك (1905).
(2) الإشراف على مذاهب العلماء (3/311) مسألة (1500).
(3) فتح القدير (2/470، 471).
(4) بداية المجتهد (2/112).
(5) رواه مسلم في الحج (1218)، وأحمد (14440)، عن جابر.
(6) المغني (3/410)، والحديث جزء من الحديث السابق.
(7) متفق عليه: رواه البخاري (1988)، ومسلم (1123)، كلاهما في الصيام.
(8) متفق عليه: رواه البخاري (1989)، ومسلم (1124)، كلاهما في الصيام.
(9) المغني (3/410)، والحديث رواه مسلم (1162)، وأبو داود (2425)، وكلاهما في الصوم، عن أبي قتادة.
(10) رواه الترمذي في الدعوات (3585) واستغربه، ونقل المنذري في "الترغيب والترهيب" (2369)، عن الترمذي أنه قال: حديث حسن غريب، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1536): حسن لغيره، عن عبد الله بن عمرو.
(11) المجموع شرح المهذب (8/115، 116)، وانظر: الإيضاح في مناسك الحج والعمرة صـ286-288.