يحيى حسين عبد الهادى

أعرف أن هذا العنوان (فضلاً عن المقال نفسه) قد يتسبب فى متاعب إضافية .. بعضها من الأصدقاء وأكثرها من النعال .. رغم أن العنوان خالٍ من الإساءة .. ولعل ذلك سببٌ كافٍ للتشنج .. فقد جرت العادة فى هذا العهد ألا يُذكر الشيخ الجليل إلا مسبوقاً بالتطاول والبذاءة والشرشحة (والحق أن الشرشحة طالت الجميع).

يتعرض الشيخ التسعينى (أتَّم قبل يومين اثنين وتسعين عاماً) لهجومٍ متواصلٍ مزدوجٍ من الإعلام المصرى والإعلام الوهابى .. والأخير قوىٌ وقادرٌ .. وليس أَدَلَّ على قدرته من أنه استطاع بأمواله الشريرة المتدفقة بلا حساب، أن يجعل من مفتى الوهابية الذى أنكر دوران الأرض حول الشمس مرجعيةً لمئات الملايين من المسلمين، بينما يُكَّفِر القرضاوى لاعتراضه على قيام طالبان بتدمير تماثيل بوذا فى أفغانستان .. أو لقوله (إن الحرية قبل الشريعة) .. ولقوله إن الديمقراطية حلال .. وإباحته الغناء كغناء ما لم يرتبط بحرامٍ واضحٍ كشرب الخمر أو الاختلاط الماجن .. وإباحته السلام باليد .. إلى آخر فتاوى فقه التجديد والأوليات.

ومن المفارقات أن ذلك الإعلام الذى كثَّف هجومه وأنفق ببذخٍ طوال عقودٍ ليقنع أجيالاً كاملةً بأن جمال عبد الناصر كافرٌ وعدوٌ للإسلام .. هو نفسه الذى يُخرج القرضاوى من المِلَّة مستخدماً نفس آليات التلفيق واقتطاع الكلمات من سياقها.

قبيل عيد الأضحى ردد كثيرون ما رَوَّجت له القنوات الوهابية من أن القرضاوى قد أسقط ركن الإسلام الخامس .. الحج .. لقوله (إن هذا الحج ليس لله تعالى حاجةٌ فيه) .. وأصبحت عبارة (القرضاوى يهاجم فريضة الحج) أحد أكثر الوسوم تداولاً على تويتر .. مع مئات البرامج والمقالات التى تُكَّفِرُ الرجل .. لمَّا عُدتُ إلى أصل التغريدة وجدتُ أنه كان يتحدث عن الذين يُفسدون حجهم بالذنوب، وأن تكملتها التى تعمدوا بترها هى (إن هذا الحج ليس لله تعالى حاجةٌ فيه .. الله غنىٌ عن العباد .. وإذا فرض عليهم فرائض فإنما ذلك ليزكوا أنفسهم وليرتقوا فى معارج الرقى الروحى والنفسى والأخلاقى إلى ربهم، ولتتحقق لهم المنافع المختلفة فى حياتهم .. يريد الإسلامُ أن تكون رحلةُ الحج رحلةَ سلامٍ وتسامحٍ .. لا رحلةَ شجارٍ ولا جدالٍ فى كل صغيرةٍ وكبيرةٍ حتى يستريح الناس ويتفرغوا لعبادة الله تعالى مخلصين له الدين حنفاء) .. وهو نفس معنى الآية الكريمة (لن ينال اللّهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) .. وقوله تعالى (لا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج) .. المشكلة أن كثيرين صاروا يرددون الأكاذيب دون تدبر .. بل إن كُتَّاباً محترمين (فعلاً) انزلقوا لمهاجمة الشيخ مستخدمين ما نُسِب إلى مطلقته من مكايدة (لم يرد عليها) ...

طبيعىٌ أن تختلف مع الرجل، فهو فى النهاية فقيهٌ .. بشرٌ يُخطئ ويصيب.. لكن الاختلاف مع الرجل فى بعض المواقف لا يبرر أن تترك عقلك نهباً لتلفيقاتٍ وأكاذيب يأباها العقل والمنطق.

شخصياً (ورغم تواضعى إلى جوار قامته)، أختلف مع بعض آرائه ومواقفه..  ولكنه الاختلاف الذى لا يخدشُ التقدير والتوقير الذى هو أهلٌ لهما كأحد أئمة الوسطية المجددين فى الإسلام.

فأنا من كثيرين لا يوافقون الشيخ على مُجمل تناوله لعبد الناصر فى مذكراته.. ولعبد الناصر مكانةٌ فى قلبى وقلوب معظم من عاشوا عصره .. ولكنها محبةٌ لا تصادر حق الآخرين فى المخالفة، فزوايا الرؤية مختلفة .. أختلف معه ولكننى أتَّفَهَمُ موقفه كعضوٍ فى جماعة الإخوان وقتها واعتُقل مرتين فى عهد عبد الناصر ومرةً فى العهد الملكى (وللإخوان دائماً روايتهم المختلفة للتاريخ).

كما أننى لم أوافق على موقف الشيخ الداعم لما سُمِّى بالمعارضة المسلحة للحكم الديكتاتوري فى سوريا .. وهى التى انضم إليها فيما بعد فرق الدواعش المختلفة التى تُكَّفِر الرجلَ وتستبيح دمَه ..

فى بداية الانتفاضة الفلسطينية، أباح الشيخُ العمليات الاستشهادية ضد المحتل .. ثم تراجع وحَرَّمَها إذا كانت ستضر بالمدنيين والأبرياء الذين لا شأن لهم .. لكن الثابت (فعلاً لا تلفيقاً) أن الرجل لم يُفتِ أبداً بقتل الضباط والجنود المصريين ولم يَرِد ذلك على لسانه مطلقاً ولا فى صفحته الرسمية (لا الملفقة).

أما موقف النظام من الشيخ فلا شأن له بالتأكيد بعلم الرجل وفقهه .. وإنما لموقفه من 30 يونيو .. كان الرجل (ولا يزال) من الرافضين لما حدث فى ٣٠ يونيو ويرى فيما حدث بعد ذلك انقلاباً .. وهو موقفٌ سياسىٌ يشاركه فيه (ولا يزال) عديدٌ من المصريين .. واختلف معه (ولا يزال) مصريون آخرون، من بينهم ابنه الشاعر الصديق عبد الرحمن يوسف الذى رد عليه بمقالٍ شهيرٍ بعنوان (عفواً يا أبى الحبيب .. مرسى ليس رئيساً شرعياً) .. وهذا اختلافٌ طبيعىٌ فى الآراء ....

لكن الأمر تحوَّل وكأن هناك ثأراً شخصياً مع الرجل بصورةٍ لا تليق بدولةٍ محترمةٍ .. حتى الثأر له أصولٌ وقواعد يا بَشَر .. ليس من بينها اعتقال صغرى كريماته وزوجها من بيتهما بالساحل الشمالى منذ أكثر من عامٍ بلا ذنبٍ ولا جريمة, وقد وصلت الهستيريا إلى حد حبس إمامٍ وخطيب مسجدٍ فى سمنود قبل عامٍ لأنه استشهد فى خطبته عن فقه الأوليات بأقوال هذا الشيخ المجدد .. إلى أين تأخذنا دولة الظلم والهَطَل؟.!.

لا أدرى ما الذى دفعنى للكتابة عن الشيخ يوسف الآن .. فلا توجد مناسبةٌ محددة .. وهو مقالٌ قد يثير المتاعب كما قلتُ .. ولكنه يُريحُ الضميرَ .. وهو سببٌ كافٍ للكتابة.

................

المصدر: صحيفة المشهد المصرية