بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة:11)
مفتي أستراليا ينعي إلى الأمة وإلى كل أحرار العالم:
سماحة الدكتور/ يوسف القرضاوي
فقيه العصر، والإمام المجدد، والعالم الرباني، والثائر الثابت.
لست شاعرا حتى أحيك للفقيد مدحة، ولست مؤرخا حتى أعدد أمجاده ومآثره ومواقفه.
ولست ناقدا حتى أتعرض لفكره وفقهه، ودعوته ورصانته، وما قدمه من علم موثق وهداية راشدة، ودعوة واعية، وفقه مستوعب، وفكر متجدد ومتطور.
ولست مغاليا حين أقول: إن فضل الرجل على مخالفيه ومنتقديه أكبر بكثير من فضله على من تتلمذوا على يديه وعرفوه فأحبوه.
* وقد تعوَّد الناس أن يُقدَّموا فيما يُسمَّى بالتأبين والنعي كلمات من قبيل المجاملة لمن يحبون، والليلة هزنى خبر الفراق فأراد القلم أن يقدم باقة حب من إشارات تشير لبعص الفضائل، وبعض الحقائق، وكثيرًا من القيم العلمية الشامخة التي أرسي شيخنا قواعدها، وشرح معالمها، وركز ضوء عقله على عرضها وإبرازها لتكون معلمًا للأجيال ولترسم طريقًا صحيحًا لا للعلاقة بين التلميذ وشيخه فقط؛ وإنما بين أجيال العلماء حين يتراكم جهدهم وجهادهم في خدمة أعظم رسالة نزلت على أكرم نبي عرفته الدنيا صلى الله عليه وسلم.
* الكلمات المكتوبة هنا صدى لرؤية باحثٍ عرف قدر الرجل فأراد أن يُعبِّر بتلقائية عن جزء من هذا القدر العظيم للرجل، وليرفعها إلى مقامه العالي في تلك المناسبة التي نودعه فيها.
* الراحل العظيم من أكبر علماء العصر -ولعله أكبرهم- شَغَلَ العقول والقلوب والأفكار، وأحدث تحولات في عالم الدعوة والفقه والفكر والإصلاح، وترك بصماتٍ علميةً في الرأي والرؤية الدينية والسياسية أيضا، كانت كلها محل تقدير واهتمام بين من اتفقوا معه ومن اختلفوا معه.
* من اتفقوا معه يرونه - رحمه الله – قد قام بواجب الوقت، وسد ثغرات كبيرة، وشغل ثغورًا كانت فارغة، وكان يمكن أن تأتينا منها رياح الخماسين العاتية فتعصف بكل شيء!
* بينما آخرون من أهل العلم قد اختلفوا معه في الوسائل وليس في الأهداف الكبرى؛ لكنهم عرفوا قدره وقيمته فوقروه واحترموه وأثنوا عليه.
* أما من اختلفوا معه من أهل السياسة فهم هواة في فن السياسة بمعني "أنهم أطفال أنابيب سياسية " ودخلاء عليها وليسوا أصلاء فيها؛ فبرغم تماديهم غير المبرر في كراهيته، ورغم تماهيهم في الدعوة لعزله ومطاردته ومحاكمته؛ إلا إنهم - لو يعقلون - لأدركوا بالقطع أن للرجل فضلًا كبيرًا عليهم؛ إذ لولاه لانجرت أنظمتهم إلى كوارث وصدامات مع شباب يائس أعطاهم ولاءً، ولم يأخذ في مقابله غير الحرمان والهوان، ولولا فكر الشيخ المعتدل وتبنيه للوسطية الإسلامية لولغوا في بحار من الدماء كانت ستفتح عليهم أبواب ثارات وانتقامات تحول ليلهم أرقًا، ونهارهم خوفًا وفزعًا، وتحرم أنظمتهم من الاستقرار ثم تسلمهم في نهاية المطاف لثورات شعبية تشوي جلودهم.
* الرجل ملأ فراغا كان يمكن أن يشكل في العقول نكسة فكرية تقتل كل بذور للنهضة، أو تطفئ كل سراج في أي أمل جديد!
* كما حمى الأمة من ردات فعل الهزيمة النفسية والحضارية التي عانت وتعاني منها أجيال من الشباب المسلم، وكان يمكن لردَّات الفعل هذه أن تدفع به إلى حالات من الانتحار الجماعي بالانضمام إلى تنظيمات متطرفة تعمل جهات كثيرة على تشجيعها؛ فتستثمرها وتستثمر فيها وتدفع بها إلى مزيد من الصدام المسلح لتستنزف طاقات الأمة في حروب عبثية؛ فكان طرح شيخنا للوسطية الإسلامية، وشرحه لأصولها وتأصيل فكرتها، وتبنيه لها في شتى المحافل والميادين العلمية؛ منقذًا للأمة من فكر الضياع وهوس التكفير واستباحة الدماء، حيث كان هذا الطرح بلسمًا أزال كثيرًا من سوء الفهم وبدَّد كثيرًا من سوء الظن، ووضح كثيرًا من القضايا الملتبسة في عقول أغلب شباب الأمة.
* وكأن الشيخ حفظه الله قد قطع على نفسه عهدًا أن يحيى في شخصه وكتاباته ومواقفه مهمة الوصل؛ بل كمال الاتصال بين أجيالنا الجديدة وبين أجيال العمالقة الكبار من أمثال الإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن القيم وابن تيمية وغيرهم.
إليك شيخنا!!
* أعلم أن محبيك كثر، وتلاميذك أكثر، وهؤلاء جميعًا يودعون اليوم فقيه عصرهم، وعالم زمانهم، وشاعر فقهائهم، وفقيه أدبائهم.
* ووسط تلك الجموع الغفيرة ممن أحبوك وتأثروا بك وتعلموا منك ويودعونك اليوم، وبرغم أني واحد منهم؛ إلا أنني لكثرتهم ولبعد المسافة وتنائي الديار لا أجد لنفسي مكانًا بينهم لأضيف غير ما عرفوه فيك، وما قالوه عنك أو وصفوك به. فمعذرة "شيخنا!"
* عزاؤك يا سيدي لا نتقدم به لأسرتك الخاصة فقط، فهم قد نالوا من المجد والشرف ما دفعوا ثمنه غاليا. وإنما نقدم خالص العزاء لعائلتك الكبرى، والتي هي أعم وأشمل حتى من وطن.
* عزاؤك لأمة قدمتَ لها، وساهمتَ في بناء وعيها ونهضة أبنائها ودافعت عن هويتها وقيمها وثوابتها. عزاوك نقدمه لعلماء تعلموا منك أن ميراث النبوة ليس مجرد حفظ لنصوص مقدسة فقط، وإنما ميراث النبوة لمواقف الثبات حين يفر آخرون، وللتضيحة حين يبيع آخرون، وللوعي الأعلى الذى يرتفع لمستوى وحي ربه، وللسعي الأعظم الذى يقتفى أثر النبوة بكمالها وجلال عطائها وعظمتها في المحن والشدائد.
* عزاؤك لكل حر عشق الكرامة وعرف قيمة الحرية.
* عزاؤك لبلد كريم "دولة قطر" حظى بوجودك فيه، ونال ترابه في دوحة الخير شرف احتوائك في أرض عاصمته التي تثبت كل يوم أنها ليست فقط عاصمة سياسية واعية وواعدة؛ وإنما هي أيضا عاصمة الفكر الأصيل والثقافة الحرة وملتقى لإرادة كل مفكر يقاوم ولا يساوم، ويؤمن بقدسية الحرف المضيء وبأن الكلمة الحرة لا تقتلها ألف قذيفة.
* أرثيك معتذرا- سيدى - بأني لا أملك طائرة خاصة أطير بها إلى دوحة الوفاء والمروءة والكرم لألقى على جسدك الطاهر نظرة وداع أخيرة، ومن ثم فلست هناك ضمن من يودعونك اليوم، ..... ولكني معهم.
* عزاؤك مزيج من الحزن والفرح: ففي عزائك سيدي نشعر بمزيج من الشعور بالفقد، ونشعر أيضا بغبطة اللقاء المبهج حيث الانتقال إلى عالم أعلى وأغلى وأبقى وأخلد.
* عالم يلتقى فيه العارفون الأحرار الشرفاء بربهم ورؤوسهم مرفوعة، ووجوههم مبيضة، وشفاهم ضاحكة مستبشرة، فقد انتهي عالم الصغار المترع بالمظالم والنذالة والخسة التي تحولت القيم فيه إلى بضاعات في الأسواق، يتاجر بها كهان وعمائم وساسة ومرتزقة.
سيدى وأستاذى
* وأخيرا نتذكر... سيدى... رفعة المقام الذى نرجوه من ربنا، ونتطلع إلى دار المقامة من فضله، وألسنتنا تلهج بالثناء والحمد لمن وفق وأعان، وحبب الإيمان والتضحيات لمن اختارهم، ونردد النغم الطاهر ونحن نودع شيخنا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾..
* وداعا سيدي ولا نقول إلا ما يرَضي ربنا {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.