السؤال: أنا فتاة عمري تسعة عشر عامًا، مشكلتي هي معاملة أمي لي، وتصرفاتها معي، علما بأن أبي متوفى وليس لي أخ ولا أخت، فأنا ابنتها الوحيدة، وكلما طلبني أحد الشباب للزواج ترفض أمي، وعندما أفاتحها في الموضوع تقول لي: سوف يأتيكِ نصيبكِ وتتزوجي إن شاء الله.

وكلما أتى شاب وتقدم لي ترفض، ماذا أفعل؟ لقد مللتُ من الوَحدة، ولله الحمد إني أخاف الله تعالى، ولا أفكر في الحرام أبدًا، وأتذكر عقوبة الله، فأرجوك أن ترشدني، وترشد أمي إلى الطريق الصحيح.

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد

والله للأسف أنا يصلني كثير من الأسئلة تتحدث في هذا الموضوع، قضية الأمهات اللائي يرفضن زواج بناتهن، والآباء الذين يرفضون زواج بناتهم، وأحيانا يرضى الأب وترفض الأم، وأحيانا العكس، هذه قضية- في الحقيقة- آن للناس أن يفكروا فيها، يجب أن نفكر في بناتنا، فكل بنت لها حق على أبيها وعلى أمها، ويجب أن يشعرا بالقلق حينما تتأخر في الزواج وتتقدم بها السن، بل يجب أن نسعى في تزويج بناتنا وشبابنا، لا أن نكون سببًا في تأخير زواجهم، لكن للأسف بعض الآباء والأمهات يقولون: هي تعيش في بيت أبيها معززة مكرمة آكلة شاربة.

الأكل والشرب ليس كل شيء، الإنسان جسد وعاطفة، كما يُشبِع جسده بالطعام والشراب، يحتاج إلى أن يشبع عاطفته بالزواج، وتحتاج المرأة أن تشبع عاطفة الأمومة بداخلها.

كل شاب سوي يرغب أن يتزوج، وكل شابة سوية ترغب في الزواج، الشاب يريد أن يكون أبًا، والشابة تريد أن تكون أمًّا، فلا بد للآباء والأمهات أن يراعوا هذه المشاعر الإنسانية الفطرية، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لذلك الله يأمر الجماعة المسلمة ويأمر أولياء الأمور بتزويج الشباب وتيسير الزواج لهم، فيقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32)، والأيم: هي التي ليس لها زوج.

وابنتنا السائلة كما تقول هي وحيدة أمها، فهي أنسها الذي تأنس به في وحدتها، هي كل شيء لها في الحياة، لكن لا ينبغي أن تكون الأم أنانية تفكر في نفسها، ولا تحس بابنتها، تريد أن تستمتع ببنتها بجوارها وتحرمها من حقها في الزواج.

المرأة في حاجة إلى الرجل، والرجل في حاجة إلى المرأة {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران:195)، الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، لا يستغني الرجل عن المرأة، ولا تستغني المرأة عن الرجل.

لا يجوز للآباء ولا للأمهات أن يفعلوا هذا، عندي شكاوى كثيرة من هذا الأمر، المفروض أن قلب الأم ينبوع من الحنان، فكيف ترضى أم لنفسها أن تقف هذا الموقف من بنتها، وتحرمها من حقها في الزواج؟ هذا لا يجوز.

فعلى أم أختنا السائلة إذا جاءها الشاب الدين الخلوق الكفء لابنتها: أن تقبل، من أجل مصلحة ابنتها، وحتى لا يفوتها القطار، وتدخل في طابور العوانس اللائي نشكو من كثرتهن في مجتمعاتنا، وما سبب العنوسة إلا هذا التعنت من الأهل، من الآباء، ومن الأمهات، ومن الإخوة. بل أحيانا من البنات أنفسهن، يرفضون ويعقدون الأمور، ويطلبون المستحيلات، وتكون النتيجة مزيدًا من العانسات، ومزيدا من المحرومات، وإذا أضيف إلى العانسات الأرامل والمطلقات، ازداد العدد وكثر وكثر، فهذا لا يجوز.

لا تعسروا ما يسر الله:

نحن نعسِّر ما يسر الله عز وجل، ونصعِّب ما سهله الشرع، ونُعقِّد الأمر البسيط، لِمَ هذا؟

أرجو من هذه الأم التي رزقت بهذه الفتاة وهي وحيدتها، ليست عندها أخ ولا أخت ولا أب، أن تنظر إلى هذا الأمر بعين المحبة والإيثار، وليس بعين الأنانية، وتقدِّر مشاعر ابنتها وعاطفتها، وحاجتها إلى أن يكون لها زوج تأنس به ويأنس بها، وأن يكون لها أبناء تشبع بهم عاطفة الأمومة التي خلقها الله في كل أنثى.

بعض الآباء والأمهات يطلبون شروطا كبيرة، ولكن لا يوجد من يملك هذه الشروط، فتكون النتيجة أن تبقى البنت، ولا تجد من يتقدَّم إليها، ويزداد عمرها سنة بعد سنة، وتذهب نضرة الشباب حينًا بعد آخر، وهذا أمر لا يجوز، وأرى أن على هذه الأم أن تخفف في هذا الأمر.

حسَب الإنسان ونسبه علمه وعمله:

والآن الدنيا تتغير، أصبح حسَبُ الإنسان ونسبُه علمَه وعملَه، فأحيانًا يكون أبوه وعائلته من خيار الناس، وهو من أسوأ الناس، فما قيمة أن أباه رجل عظيم وهو جاهل، أو فاسد؟ وما قيمة حسبه ونسبه حينئذ؟ وكم من شاب عصامي يصنع لنفسه مكانة بين الناس بعلمه وعمله وخلقه ومركزه ودينه وإنتاجه وعطائه للمجتمع! الأحساب كيف تكوّنت؟ كوّنها أناس بأعمالهم، وورثها مَنْ بعدَهم.

وينبغي أن نعلم أن الناس كلهم لآدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلابالتقوى"(1).

هذا هو المبدأ الإسلامي، الناس سواسية كأسنان المُشط، جمعتهم حقيقتان: العبودية لله، والبنوة لآدم، كلكم عبيد الله، وكلكم إخوة؛ لأنكم أبناء رجل واحد، وامرأة واحدة، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، كلكم أولاد آدم وحواء، ولا يتفاضل الناس إلا بالتقوى، والتقوى في القلب، لا يعلمها إلا الله، وفضل الإنسان إنما هو بعمله وعلمه {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر:9)، لا يستوون {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (فاطر:19-22)، {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} (غافر:58)، لا يستوي من كان صالحًا ومن كان مسيئًا.

زوِّج ابنتك ذا دين:

كل ما ينبغي أن يُطلب في الشخص الذي يتقدم لابنتي أو لأختي الدين والخلق، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه، إلا تفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (سنن ابن ماجه). وقال السلف: إذا زوَّجت ابنتك فزوِّجها ذا دين, إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.

فأهم شيء هو الدين، ما قيمة أن تزوج ابنتك من غني فاسق؟ يتزوجها شهرا أو شهرين ثم يطلقها، ويبحث عن غيرها في الحلال أو في الحرام؟

الإمام الشعبي يقول: من زوج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها.

لا تزوج ابنتك من فاسق، زوِّجها من صالح، يرعى حقها، ويحترمها، ويفي لها بما ينبغي، يتقرب إلى الله بحسن معاشرة زوجته بالمعروف، كما أن الرجل إذا أراد أن يتزوج يتزوج المرأة الصالحة، كما في الحديث: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"(2).

الكفاءة والقدرة على النفقة:

ولا يعني هذا أن نغض الطرف عن أمور أساسية فيمن يتقدم لابنتي كالقدرة على النفقة، فلا يأتي شخص عاطل وأزوجه بنتي، لا، لا بد أن يكون الشخص عنده قدرة على النفقة، عنده من المال ما يستطيع أن يفتح به بيتًا، وأن يكون كفْئًا لها، فإذا كانت- مثلًا- جامعية فلا أزوجها من أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب.

ومن الأمور المهمة السن، فلا تُزَوَّج الشابة شيخًا كبيرًا، ويكون قبل ذلك كله وبعد ذلك كله ذا دين وخلق.

لا بد أن نغير من أفكارنا، كما تتغير الحياة من حولنا، وسيجد الأب البصير الغيور على بناته: أنه أحسن إلى ابنته بتزويجها من هذا الرجل الصالح، ذي الدين والخلق والعلم، فهذا أفضل من تُهدَى إليه الفتاة، وليس صاحب المال الذي يبعثره ذات اليمين وذات الشمال، ولا صاحب الجاه أو صاحب النسب والحسب المغتر بنسبه، الفخور بحسبه، الذي لا يبالي بزوجته، وربما يتركها بعد أيام قليلة، أسأل الله أن يبصرنا ويفقهنا في ديننا.

.....

(1) رواه أحمد (23489)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح، وقال الهيثمي في المجمع الزوائد (5622): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، عمَّن سمع خطبة النبي صلي الله عليه وسلم.

(2) متفق عليه: رواه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466)، عن أبي هريرة.