كان من أهم أهداف مركز بحوث السنة والسيرة الذي تبنته جامعة قطر: أن ننشئ مكتبة جامعة لمصادر السنة والسيرة، وأن تحتوي على ما يمكن من المخطوطات أو مصوراتها.

وقد قررت الجامعة: أن يذهب وفد يمثل المركز لزيارة مكتبات الهند الشهيرة، ويتعرَف على ما فيها من كنوز علمية تفيد المركز في أداء رسالته.

وكان الوفد يتكون مني ومن الأخ الدكتور عبد العظيم الديب الأستاذ بكلية الشريعة، وعضو مجلس إدارة المركز، والابن الحبيب علي يوسف المحمدي، المدرس المساعد بالكلية، والذي يحضر رسالة الدكتوراه بكلية الشريعة بالأزهر، وكان السفر في أواخر شهر فبراير من سنة 1982م.

في لكهنو:

كانت محطتنا الأولى هي لكهنو، وفيها ندوة العلماء ورئيسها الداعية الإسلامي الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي، ودار علومها، وكلياتها المختلفة ... وقد وصلنا إلى دلهي أولًا، ومنها استقللنا الطائرة الداخلية إلى لكهنو، ولكن عندما وصلنا إلى لكهنو، لم نجد فيها أحدًا نلقاه، لا السيد أبا الحسن، ولا الشيخ محمد الرابع ابن أخته، ولا الشيخ سعيد الأعظمي رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي، فكلهم قد ذهبوا إلى «أعظم كَرَه» التي فيها «دار المصنفين» الشهيرة، وهي منشأة علمية أسسها العلامة شبلي النعماني رحمه الله.

«أعظم كره»:

و «أعظم كَرَه» هذه هي التي ينسب إليها كثير من علماء الهند، مثل المحدث الكبير المحقق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والصديق الجليل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، الحاصل على جائزة الملك فيصل في خدمة السنة.

وهذه غير أعظمية بغداد، التي ينسب لها بعض من تعرفهم من العلماء والأدباء مثل الشاعر وليد الأعظمي.

فأعظمية بغداد نسبة إلى حي «الأعظمية» التي فيها مسجد وقبر الإمام الأعظم أبي حنيفة، وهي منطقة سنية.

وفي مقابلها «الكاظمية» وفيها قبر الإمام موسى الكاظم، وهي منطقة شيعية.

وفي «أعظم كره» أقام الشيخ أبو الحسن مؤتمر «الإسلام والمستشرقون» على رغم بعد هذه البلدة عن المطار ووعورة الوصول إليها، لكنه أراد أن يجعل منها فرصة للتنويه بدار المصنفين، ويحيي ذكرى العالم الكبير أحد مؤسِّسي ندوة العلماء: الشيخ شبلي النعماني عليه رحمة الله.

وقال الإخوة في «لكهنو»: إنَّ الشيخ علم بزيارتكم، وفرح بها جدًّا، وهو يدعوكم ويلح في الدعوة إلى المشاركة في المؤتمر الخاص بالاستشراق والمستشرقين. وقطعنا تذاكر الطائرة إلى مدينة «بنارس»، وفيها «الجامعة السلفية» الشهيرة، ومن «بنارس» أخذنا السيارات إلى «أعظم كره»، وهي مسافة طويلة تستغرق عددًا من الساعات، والطرق في هذه الأماكن ليس على ما يرام، مع ما تتميز به من الزحام، إضافة إلى العجلات التي تجرها الثيران، وإلى الدواب من الحمير وغيرها.

دع عنك «الأبقار المقدسة» التي تمشي متبخترة في الشوارع، ولا يستطيع أحد أن يمد يده إليها، أو يحوّل سيرها، كيف وهي معبودة القوم؟ فليكن لها ما تريد أو ما تشتهي، وهل يجرؤ عابد أن يعترض طريق معبوده؟!!

والعجيب أن أختها أو بنت عمها «الجاموسة» وهي أغزر منها لبنًا، وأكثر منها نفعًا: ليس لها أي لون من القداسة، بل هي تجر الأثقال، وتعمل في خدمة الزراعة.

وكذلك ذَكَر البقر «الثور» فهو شقيق البقرة أو أبوها، أو ابنها، ولكنه لم تشمله بركة القداسة التي تختص بها الأنثى، فهو مثل الجاموسة يخصص للأشغال، وحمل الأثقال!

رئاسة مؤتمر «الإسلام والمستشرقون»:

المهم أننا وصلنا بعد جهد ولأي إلى أعظم كره، وكانت فرحة الشيخ أبي الحسن بنا لا توصف، وقال: كنا في حاجة إلى من يرأس المؤتمر، ووجودك قد حلَّ لنا هذه المشكلة، وشرفني الشيخ بذلك، وهو في الحقيقة أولى برئاسته.

وانعقد المؤتمر، وأقيتُ كلمة ضافية مرتجلة في افتتاحه عن الاستشراق والمستشرقين، وأن منهم المحرفين، ومنهم المخلصين في طلب الحقيقة.

ولكن حتى المنصفين منهم لا يستطيعون التحرُّر من جملة عقد تحكمهم، منها:

نظرتهم إلى الإسلام على أنه دين مصنوع، وأن قرآنه مُختلق مُفْترى على الله، وأن نبيه محمدًا كاذب في دعواه النبوة ... وهذه النظرة السوداء لا شك في أن لها تأثيرها فيما يكتبه صاحبها عن هذا الدين.

ومنها: نظرتهم إلى الغرب على أنه السيد، وأنَّ الجنس الأبيض هو سيد الأجناس، وأنَّ أوربا  هي أم الدنيا، وأن تاريخها هو تاريخ العالم، فالقرون الوسطى هي قرون الظلام والتخلف والانقطاع، وإن كانت هي قرون الحضارة والنور وازدهار العلم في تاريخ الإسلام.

ومنها: عدم تذوُّقهم للغة العربية وضعف معرفتهم بخصاصها، وإن بلغوا من العلم بها مبلغًا كبيرًا، ولكن العلم شيء والتذوُّق شيء آخر.

لهذه الأسباب ولغيرها لم يكن حكم غالب المستشرقين على الإسلام وتراثه وعلومه ورجاله وتاريخه حكما منصفًا.

وكان في المستشرقين من هو من ذوي الغرض والهوى والتحيُّز، الذي يخدم ببحوثه جهات معادية للإسلام، أو كان هو نفسه معاديًا للإسلام وأهله.

وقد لقيت هذه الكلمة المرتجلة استحسان الحاضرين، وإن لم يقدر لي أن أكتبها بعد ذلك. فلم يبق لها آثر.

كلمة أبي الحسن الندوي في المؤتمر:

وألقى العلامة أبو الحسن: كلمة رائعة في شأن المستشرقين، وخصوصًا المتحاملين منهم على الإسلام والمسلمين، وشبههم بـ «مفتشي القمامة» الذين لا يهتمون بكل ما هو حَسَن وجميل، إنما يبحثون عن الفضلات والقاذورات، ولا تقع أعينهم إلا على هذه الأشياء، التي تنبو عنها أعين جماهير الناس، ولا تلتفت إليها، وهي وحدها موضع اهتمامهم.

بحث الدكتور عبد العظيم الديب عن المستشرقين والتاريخ:

وأعدَّ أخونا الدكتور عبد العظيم الديب بحثًا عن المستشرقين والتاريخ، عكف على إعداده، ونحن هناك بدون مراجع لديه، بل من المخزون الذي في ذاكرته عن المستشرقين وموقفهم من التاريخ، وقد ألقاه في المؤتمر، ولقى القبول والثناء من المشاركين، وأحسب أنه هو الذي طوَّره بعد ذلك ونشره في كتاب الأمة «المنهج في كتابة التاريخ الإسلامي عند المستشرقين».

وبقينا يومين في أعظم كره، ثم عقدنا العزم لنواصل رحلتنا إلى مكتبات الهند العامرة في بتنا وفي حيدر آباد وغيرهما.

زيارة العلامة حبيب الرحمن الأعظمي:

وفي طريق عودتنا: خطَّطنا لزيارة علامة الهند المحدِّث الكبير الشيخ محمد حبيب الرحمن الأعظمي، محقق الكتب الحديثية الشهيرة: «المصنف» لعبد الرزاق في (11) مجلدًا كبيرًا، والذي نشره المكتب الإسلامي في بيروت، و «المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية» لابن حجر، وقد نشرته وزارة الأوقاف الكويتية، كما حقق «مسند الحميدي»، وغيرها.

وكان للشيخ تعقيباته ومناقشاته العلمية والحديثية العميقة لمحدِّث مصر العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر، في تخريج «مسند أحمد»، وإقرار الشيخ شاكر له على كثير من ملاحظاته.

كما عقَّب على الشيخ الألباني مستدركًا عليه، وإن لم ينشره باسمه الصريح.

وكنا قد كاتبنا العلامة الأعظمي، لنستضيفه أستاذًا زائرًا لمركز بحوث السنة والسيرة في قطر، لمدة سنة دراسية قابلة للتجديد، حسب ظروفه، وبعد أن أوشك أن يستجيب لنا اعتذر لظروفه الصحية.

ولهذا انتهزنا الفرصة لنزور الشيخ في بلده ومسقط رأسه «مئو»، وهي قرية صديقنا الدكتور مصطفى الأعظمي أيضًا.

وقد احتفى الشيخ بمقدمنا، وأحسن استقبالنا، وأرانا بعض مناشطه والمدارس التي يشرف عليها، وأجلسنا مع بعض تلاميذه، وطلب مني أن ألقي كلمة عليهم، وكان الليل قد دخل علينا، والطريق طويل أمامنا، وهو مظلم، وفيه قدر من الخطورة وعدم الأمن، وقد طلبوا منا أن نبيت عندهم ونسافر في الصباح، ولكن وقتنا كان ضيقًا ولا يحتمل المبيت، فاستأذنا من الشيخ أن يسمح لنا بالمغادرة، وودَّعناه بكل حبّ وتقدير، طالبين منه أن يدعو لنا بظهر الغيب، وأن يعدنا بزيارة لمركزنا إذا تيسَّرت الأسباب.

ومما أسفت له: أني لم آخذ منه «إجازة» علمية برواية كل مروياته وما أجازه به شيوخه، وكانت فرصة لا تعوض، إلا أن وقتنا المحدود لم يتح لنا فرصة التفكير في ذلك.

تعطل السيارة في الطريق:

ودعنا الشيخ وتلاميذه وقريته المتواضعة، وامتطينا سيارتنا الهندية الصنع، فقلما يعرف الهنود ما نعرفه في بلاد الخليج من السيارات الألمانية والإنكليزية والفرنسية واليابانية والأمريكية وغيرها، بل نرى الجميع يركبون سياراتهم الهندية.

والواقع أن الهنود قد سبقونا في ذلك، وصمَّموا على أن يصنعوا سيارة بأيديهم، وموتورها من صنعهم، ولم يكن عملهم مجرد تجميع، كما عملنا نحن في مصر مع «سيارة نصر» التي استوردنا موتورها من شركة «فيات» الإيطالية ... ولا نكاد نجد هنديًا مهما بلغ مركزه لا يركب هذه السيارة الهندية، ونحن نحيي الهند على هذه العزيمة القوية والهمة العالية، ونعزّي أنفسنا أننا في بلاد العرب جميعًا لم نصنع سيارة كاملة، ولا حتى موتوسيكلًا حتى اليوم!

كانت سيارتنا الهندية التي استأجرناها قديمة نسبيًا، وكنا نخاف أن تتعطل في الطريق، ونمسك قلوبنا بأيدينا، وعلى رغم أننا قرأنا عليها المعوذات، وآية الكرسي، ودعونا بأدعية السفر الماثورة «اللهم هون علينا سفرنا، واطو عنا بعده»(1): توقفت السيارة في مكان بين بلدين، وفي ظلام الليل الدامس، فلم تكن ليلتنا مقمرة، وكانوا يخوفوننا من قطاع الطريق، الذين قد يطمعون فينا، ومظهرنا يوحي بأننا عرب من بلاد الخليج التي تفيض أرضها بالذهب ... ولكن كان لا بد للسائق من أن يدعنا ويركب مع أحد السائقين ليأتي بميكانيكي من أقرب بلدة إلينا، وهو ما فعله، وجاء الميكانيكي، وأصلح الله على يده السيارة المتعطلة، فتنفسنا الصعداء، وحمدنا الله على أن عدنا سالمين، وفهمنا معنى قول الناس للعائد من السفر: الحمد لله على السلامة، فيبدو أن السلامة كانت هي أول ما يطلبه الأهل والأحبة من المسافر، أما الغنيمة والأرباح وما إلى ذلك، فتأتي في المراتب التالية.

زيارة «بنارس» والجامعة السلفية:

وأكملنا مشوارنا إلى مدينة «بنارس»، وهي مدينة تشتهر بنهر مقدس يعبده الهندوس، كما تشتهر بالحرير الهندي، الذي اجتهدنا أن نشتري شيئًا منه، هدايا لأهلينا بعد عودتنا، نرشوهم بها بعد طول الغيبة!

وفي بنارس أقلية مسلمة نَشِطة، ومنهم: جماعة سلفية العقيدة تتبع مدرسة ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب، وهم الذين أقاموا «الجامعة السلفية» الشهيرة في بنارس.

وقد زرناهم، فرحَّبوا بنا، والتقينا رئيس الجامعة وعلماءها، وأهدونا بعض منشوراتهم، ومنها - على ما أذكر - كتاب «مرعاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح» وهو شرح مطوَّل على «المشكاة»(2)، غير شرح العلامة الهندي ملا علي القاري المسمى «مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح»، ولكن القاري حنفي المذهب، والشرح الآخر سلفي المذهب، كما أنه أوسع بكثيرمن شرح القاري.

....................

(1) رواه مسلم في الحج (1342) عن ابن عمر.

(2) هو للعلامة المحدث الشيخ أبي الحسن عبيد الله بن محمد بن عبد السلام المباركفوري رحمه الله تعالى.