في 13 من شهر ربيع الأول سنة 1410هـ، الموافق 15/10/1989م، وافانا بالدوحة نبأ ذرفت له الأعين، وحزنت له القلوب، ولم نملك إلا أن نقول ما علمناه القرآن في استقبال مصائب الدنيا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (البقرة: 156).

إنه نبأ وفاة الأخ الحبيب، والصديق الكريم، العالم الجليل، والمربّي النبيل، والداعية الكبير، والمجاهد الغيور، الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، الذي جاءه أجله، وهو يعالج في لندن، بعد أن اغتسل وتطهّر، وقال لمن حوله: مرحبًا بلقاء ربي! ونقل جثمانه إلى الدوحة، وصلّى عليه الألوف من أبناء قطر، وممن يقيمون على أرضها... الذين ودَّعوه بقلوب مكلومة، وأعين دامعة، وألسنة تتضرع إلى الله بالدعاء له أن يغفر له ويرحمه، ويسكنه الفردوس الأعلى، ويتقبله في الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

تعريفي على الشيخ عبد الله الأنصاري:

عرفت عبد الله منذ أول يوم تسلّمت فيه عملي في وزارة معارف قطر مديرًا للمعهد الديني الثانوي في 4 ربيع الآخر 1481هـ، الموافق 15 سبتمبر 1961م، حيث كان الشيخ أول من زارني في مكتبي، وأنْعم وأكْرم به من زائر. لقد دخل علي، فوجدت رجلًا بشوش الوجه، باسم الثغر، عذْب الحديث، سمْح النفس، تستريح نفسك إذا نظرت إليه، وينشرح صدرك إذا تحدّثت إليه، وتحس بأنه رجل من أهل الصدق والإخلاص... هذا هو انطباعي عنه من أول لقاء. والكتابُ يقرأ من عنوانه كما يقولون.

لقد بادرني بالعناق، وقدّم إليَّ نفسه، وقال: أخوك عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، أحد طلبة العلم في قطر، ومدير مدرسة صلاح الدين الأيوبي. نحن هنا أهلك، وقطر بلدك، وكلنا في خدمتك، وقد أحببناك قبل أن نراك، وازددنا لك حبًّا بعد لقائك.

وقد رددت على تحية الشيخ بمثلها أو بأحسن منها، وبادلته عاطفة بعاطفة، وقلت له: أنا مستبشر بأنك أول زائر لي في مكتبي، وهذا يبشر بالخير... ثم ودعت الشيخ مشكورًا، بعد أن دعاني إلى أن أزوره في منزله، وألاّ أتردد في طلب أيِّ شيء أحتاج إليه.

ومن ذلك اليوم بدأت علاقتي بالشيخ عبد الله واستمرت، ولم تزدها الأيام إلا قوة على قوة، فالشيخ كنز من الفضائل وخصال الخير، يكتشفها فيه كل من عرفه واقترب منه، وكلما زاد منه قربًا، ازداد له حبًّا، وهو ما لمسته بنفسي ولمسه غير. وإني لأدعو الله تعالى أن يظلنا ببركة هذا الحب في الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أول زيارة للشيخ الأنصاري في مجلسه:

وما هي إلا أيام قليلة حتى زرت الشيخ عبد الله في بيته بين المغرب والعشاء، أعني بيته القديم الذي كان قريبًا من مسجد الشيخ غانم، وكان مجلسه مجلسًا عربيًّا، نجلس فيه على الأرض المفروشة متكئين على الوسائد، وكان مجلس الشيخ يتميز بأنه مجلس ومكتبة في الوقت ذاته، ففي جدرانه الأربعة حُفرت مكتبات في أصل البناية هُيئت تهيئة حسنة، ومُلئت رفوفها بالكتب المصنّفة على العلوم الشرعية، واللغوية، والأدبية، من التفسير، وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه على مختلف مذاهبه، والعقيدة، والتاريخ، والنحو، والصرف، والأدب، والبلاغة.

ومن حُسن الطالع أني حين زرت الشيخ وجدته يقرأ مع بعض جلسائه في بعض كتب الحديث، فطلب مني الشيخ أن أعلق على الحديث الذي قرئ، ففتح الله عليّ، وقلت كلامًا مرتجلًا بغير إعداد ولا ترتيب... وكان الشيخ يهتزّ طربًا كلما سمعني أشرح وأفصّل، فدلّني هذا على إخلاص الرجل وتجرُّده، فإن بعض ذوي النفوس المريضة لا يسره أن يظهر عالم غيره، بل ينغص ذلك عليه ويسوءه... وجاءت صلاة العشاء، فأبى الشيخ إلا أن يقدمني للإمامة، فزاده ذلك عندي رفعة وعلوًا.

توثق العلاقات مع الشيخ الأنصاري:

وتوثقت العلاقات بيني وبين الشيخ، وتعددت الزيارات واللقاءات والجلسات العلمية، والندوات القرآنية، التي كان الشيخ يعقدها مساء كل خميس في المسجد المجاور له، وكان يحرص على أن أختتمها بدرس أو خواطر قرآنية كلما حضرت، وكلما أقام ندوة أو احتفالا بمناسبة من المناسبات حرص على أن أكون في مقدمة المتحدثين.

سلفيّ سمح على منهاج النبوة:

كان الشيخ الأنصاري شعلة من النشاط والحركة والغيرة الدينية، وكان رضِيًّا محبَبًا إلى كل من عرفه من الناس. وكان سرُّ ذلك يرجع إلى سماحة نفسه، وسعة صدره، وحسن خلقه، ورقة طبعه، فهو رجل سهل سمح، موطأ الأكناف، كريم النفس، مبسوط اليد، يالف ويُؤْلف، يُحِبُّ ويُحَبُّ، يرحم الصغير، ويوقّر الكبير، ويقْري الضيف، ويبذل للمحتاج، ويعين على نوائب الدهر... تقوم حياته على المياسرة لا المعاسرة، والتسهيل لا التعقيد، والتسامح لا التعصب، والمرونة لا الجمود...

ظهر هذا في علمه وفقهه، كما ظهر في تعامله وسلوكه. فهو يقتبس من المنهج النبوي: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّرو ولا تنفِّروا»(1)، كما اقتبس من الخلق النبوي: «أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما»(2)... ومن خلق السماحة لدى الشيخ أنه كان قريبًا من الذين يعملون معه، ما كانوا يشعرون بأنهم مع رئيس يستعلي عليهم، بل مع أبٍ يحنو ع ليهم، ولا غرو أن استمر الذين عملوا معه سنين بل عقودًا، لم يتغيرّ عليهم، ولم يتغيّروا عليه.

دلائل السماحة والسهولة عند الشيخ:

عرفته سلفيّ العقيدة ولكن لم يكن فيه خشونة السلفيين ولا حرفيتهم، ولا نظرتهم السوداء إلى غيرهم، ولا حملتهم الشعواء على من خالفهم.

لم يجد بأسًا في الاحتفال بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  بالحديث عن السيرة النبوية، والرسالة المحمدية، وقد شاركته في ذلك بعض المرات، مبينًا في كلمتي مبررات مثل هذا الاحتفال بهذه الصورة، في عصر أصبح الناس يحتفلون فيه بميلاد زعمائهم وكبرائهم، وذكرت أن هذا في الحقيقة احتفال بمولد الرسالة لا بمولد الرسول. وأنّ الصحابة والتابعين لم يحتفلوا بمثل هذه المناسبات، لأنهم لم يكونوا في حاجة إليها، وقد كان الرسول حيًا وحاضرًا في وجدانهم وفي حياتهم.

مساجلة علمية بين الأنصاري وابن محمود:

وقد اعترض العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود قاضي قضاة قطر، على هذا الاحتفال، وكانت بينه وبين الشيخ الأنصاري مساجلة علمية رصينة، دلت على مبلغ علم الأنصاري وتمكَنه، وهي مساجلة قيمة ينبغي أن تُراجع.

احترامه المذاهب الفقهية:

وعرفت الشيخ شافعيًّا، ولكنه لم يكن متعصِّبًا لمذهبه، ولا يكاد أحد يعرف له مذهبًا، فهو يحبّ الأئمة جميعًا، ويقدّرهم جميعًا، ويحترم المذاهب كلها، ويأخذ منها ما ترجَح دليله لديه، ولا يمنع العامّة من تقليد أيّ مذهب رضوه منها، ولا يطعن في أحد من العلماء الأموات أو الأحياء، بل كان عفّ اللسان، لا يحب أن يذكر أحدًا بسوء، وطريقته أن يضيء الشموع، لا أن يلعن الظلام.

وجدان روحي عميق:

وعرفت الشيخ ذا وجدان روحي عميق، وحسّ إيماني رقيق، تغلب الدموع عينيه، وتترقرق العَبرات على وجنتيه، عندما يعظ أو يخطب، فيأخذه الوجد، أو يغلي به الحماس، ولكنه لم يكن من الخرافيين الذين يتَبعون ترّهات بعض الطرق الصوفية، أو الذين يتقبلون البدع ويحاولون تبريرها، أو الذين يروّجون الشركيات في العقيدة بصورة من الصور.

إدارته شئون القرى:

كان مسئولًا في فترة طويلة في وزارة التربية التعليم - في عهد الشيخ قاسم بن حمد رحمه الله - عن «إدارة شئون القرى» وهي إدارة لها مشكلاتها وعقدها وطبيعتها الخاصة، وكنت إذا زرته في مكتبه أجده مزدحمًا بأصحاب المطالب والحاجات من أهل القرى والبوادي، وكنت أعجب من صبره عليهم، وطول باله في الاستماع إلى شكاياتهم، والمحاورة معهم، والمصالحة بينهم، مع سهولة وطلاقة وجه، لا يُلقّاها إلا الذين صبروا، ولا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم.

وَوُكِل إلى الشيخ إدارة الشئون الدينية بالوزارة، وبوصفها إحدى الإدارات الأربع، في عهد إدارة د. كمال ناجي، وكنت بحكم إدارتي للمعهد الديني أتردّد عليه، وحدي حينًا، ومع فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار أحيانًا، وكان هو يتردد على المعهد، ولا أذكر أني اصطدمت به أو اصطدم بي يومًا من الأيام، وما ذاك إلا لخلقه السّمْح، وصَدْره الرّحْب، والحب الكبير المتبادل بيننا، والثقة التي يوليها كلٌّ منا لأخيه.

الرفيق الكريم في السفر:

ولقد عرفت الشيخ معرفة أعمق عن طريق الأسفار التي جمعتنا أكثر من مرة... وقد قيل: إنما سُمِّي السفر سفرًا، لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال، ويكشف عن معادنهم.

فقد سافرنا معًا في رحلة طويلة إلى الشرق الأقصى بأمر من أمير البلاد السابق الشيخ خليفة بن حمد ظظظ وذلك سنة 1974م، وكان يرافقنا الأستاذ سيد أبو يوسف، المسئول عن العلاقات الثقافية بوزارة التربية والتعليم لمعرفته الجيدة بالغة الإنجليزية - التي لا يتقنها الشيخ ولا أنا - وهو رجل على دين وخلق، كان نعْم الرفيق المعين لنا، وكانت رحلة ممتعة على طولها ومشقتها، فقد زرنا فيها ماليزيا، وإندونسيا، وسنغافورة، وهوج كونج، والفلبين، وكوريا، واليابان...

وقد اهتمت حكومة الفلبين بزيارتنا، ووضعت تحت أيدينا طائرة خاصة نقلتنا إلى جنوب الفلبين، وكانت أيامنا في الفلبين ثرية وخصْبة، وخصوصًا في مدينة«مراوي»، وقد زرنا جامعة «ماندناو» الرسمية بها، ومعهد الملك فيصل للدراسات الإسلامية، والجامعة الإسلامية الأهلية التي أسسها المجاهد المعروف الدكتور «أحمد ألونتو» رحمه الله  مؤسس جمعية أنصار الإسلام، وزرنا جمعية إقامة الإسلام التي أسسها الشيخ أحمد بشير رحمه الله  ومعهدها العربي الإسلامي، وعددًا من المدارس العربية الكثيرة المنتشرة في تلك البقعة، وتضم البنين والبنات وتعلمهم اللغة العربية والإسلام، والتي كانت زيارنا لكل منها «عرسًا» للمدرسة ومدرسيها وطلابها وطالباتها، وبخاصة أن الشيخ كان يحمل معه مبالغ من أمير قطر ومن أهل الخير، كان يعطي لكل مدرسة نصيبًا منها.

وسافرت معه بعد ذلك إلى الرياض، وإلى باكستان والهند، وإلى القاهرة، وإلى الكويت، وإلى البحرين، وإلى مكة المكرمة، في الحج إلى بيت الله الحرام، وكان هو رئيسًا لبعثة الحج، فكان هو دائمًا النبع الثر، والمعين السخي، والمعدن الأصيل، الذي لا يضيق برفيق، ولا يتبرم بصديق، ولا تشعر معه بضيق، وإن طال بك الطريق. السفر معه روح وريحان، والجلوس معه حب وإيمان، والحديث معه ذكر وقرآن، والعمل معه قربة وإحسان.

جهود الشيخ في المؤتمر العالمي الثالث للسنة والسيرة:

وعندما تبنّت دولة قطر المؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية - بعدما عقد المؤتمر الأول في باكستان والثاني في تركيا - وجعلته قطر مقدمة لاحتفال الأمة الإسلامية بالقرن الجديد، القرن الخامس عشر الهجري: تعاونًّا معًا في اللجنة التحضيرية - التي رأسها الشيخ - والتي أعدّت العدة لاستضافة هذا المؤتمر الكبير، واستجاب الشيخ لما اقترحناه: أن نجعله مؤتمرًا للسنة والسيرة معًا، كما استجاب لكل مَنْ اقترحناه عليه من أسماء للاستعانة بهم في إنضاج الموضوع، وفي ترشيح الأسماء، سواء بالكتابة إليهم أم باستحضارهم إذا ساعدتهم ظروفهم، مثل الشيخ أبي الحسن الندوي، والدكتور عبد العزيز كامل، والدكتور عز الدين إبراهيم رحمه الله ت.

وبذل الشيخ جهودًا مضْنية، تُذكر فتُشكر، في الإعداد والترتيب، وتذليل الصعاب، وجاء المؤتمر بحمد الله، رافعًا للرأس، لائقًا بموضوعه وبالمناسبة التي عُقِدَ فيها. وتُوِّج ذلك بإجماع الحاضرين من أقطار العالم الإسلامي، ومن الجاليات الإسلامية خارجه، على اختيار الشيخ الأنصاري رئيسًا للمؤتمر الذي أصدر توصيات طيبة، نُشرت في كتيب خاص، وصدرت بحوثه في سبعة مجلدات بإشراف الشيخ.

إدارة إحياء التراث الإسلامي:

أُسند إلى الشيخ إدارة إحياء التراث الإسلامي، فيسَّر الله على يديه طباعة مجموعة كبيرة من كتب التراث في التفسير والحديث والفقه والأصول والعقيدة والتاريخ واللغة والأدب، والمتون التي يحفظها طلاب العلم وغيرها، تطبع محققة مفهرسة على ورق فاخر، وتوزع في البلاد الإسلامية المختلفة، يرسلها الشيخ إليها، فينتفع بها طلاب العلم، وخصوصًا الفقراء الذين لا يجدون أثمان الكتب الكبيرة، فنفع الله به الألوف من علماء المسلمين وطلاب العلم في أنحاء العالم.

موئل لأصحاب الحاجات:

وكان الشيخ موئلًا لأصحاب الحاجات من الفقراء والغارمين، وطلبة العلم، ولا سيما من البلاد الإسلامية المختلفة.وكان يستقبل الجميع يهشّ لهم، ويعمل على مساعدتهم، ولا يضيق صدرًا بهم. وكان أهل البر والخير من تجار قطر وأثريائها يثقون به، ويمدونه بما يعين به أهل العوز والفقر. وقد عمل الشيخ على إنشاء مراكز تحفيظ القرآن، التي بدأت محدودة ثم توسّعت وانتشرت، وأصبحت تملأ الساحة، والحمد لله.

عضويته في الهيئات العربية والإسلامية:

وكان الشيخ عضوًا في هيئات عربية وإسلامية كثيرة، مثل المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، والمجلس العالمي الأعلى للمساجد، والهيئة الخيرية الإسلاية العالمية بالكويت، والمركز الإسلامي الإفريقي، وجمعيات كثيرة، داخل بلاد الخليج وخارجها. وكان في جميعها عضوًا فعّالًا، شجاعًا في إبداء رأيه، وفي نقد ما يراه من خلل أ وخطل...

وقد كانت هذه الشجاعة في الحق سمة ملازمة له، تلمسها في المؤتمرات التي يحضرها، فإذا مس أحد «الثوابت الإسلامية» ثار كالبركان، وقال كلمته في غاية الصراحة، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

اشترك في أحد ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر، فقال وزير الشئون الدينية والتعليم الأصلي في ذلك الوقت الأستاذ مولود قاسم: كلمة فيها مساس بعصمة الرسول الكريم، إذ قال: كل الناس يخطئون، حتى محمد أخطأ. فقام الشيخ وتكلم بكلام قوي لم يستطع الوزير بعد أن يعقّب عليه.

وفي ولاية كيرالا في الهند، حضر بعض الاحتفالات لبعض الجماعات الإسلامية المتشدّدة، التي شارك فيها ممثلون عن الهندوس، بينما رفضوا أن يشارك فيها أمير الجماعة الإسلامية بإلقاء كلمة، فما كان من الشيخ الأنصاري إلا أن غادر الحفل محتجًّا، كيف تقبل مشاركة الهندوس في حفل، ولا تقبل مشاركة علماء المسلمين ودعاتهم؟

إصداره التقويم القطري:

وكان للشيخ مشاركة في «علم الفلك القديم» وعلى أساسه كان يصدر «التقويم القطري» المشهور، ويملؤه بالحكم البليغة، والأشعار والأمثال واللطائف والألغاز التي يطلب حلها، وما زال ابنه الأكبر أبو عمر مستمرًّا في إصدار هذا التقويم النافع، الذي ورثه عن أبيه. ومن شابه أباه فما ظلم.

رحم الله الشيخ عبد الله الأنصاري، وتقبَّله في الصالحين المصلحين، وجزاه خير الجزاء عما قدم من جهد في سبيل الإسلام والمسلمين.

لقائي د. مصطفى الفقي بالدوحة 4/11/1989م

دعوته من نادي «الجسرة» الثقافي:

ومن الشخصيات المصرية التي لقيتها في قطر: د. مصطفى الفقي، الذي كان يعمل مستشارًا في مكتب رئيس الجمهورية «حسني مبارك». وقد دُعي إلى الدوحة لإلقاء محاضرة عامة في نادي «الجسرة» الثقافي الذي تعود أن يدعو الشخصيات العربية المرموقة من رجالات الأدب والفكر والسياسة، وإن عرف أنه لا يدعو أحدًا من ذوي الاتجاه الأسلامي المعروف. وإنما سمي النادي «نادي الجسرة» نسبة إلى المنطقة ا لتي قام فيها من الدوحة، وهي منطقة الجسرة، وكانت دعوة د. الفقي في شتاء 1989. وقد دعا قبل ذلك: أحمد باء الدين، وغيره من رجالات مصر وغيرها من البلاد العربية.

احتفاؤه بزيارتي:

وقد حرصت على أن أحضر المحاضرة، وأن ألتقي المحاضر بعد ذلك في حجرته أو جناحه في الفندق، مرحّبًا به في قطر، وقد احتفى بزيارتي له، وقال لي: لقد كان من أهداف زيارتي لقطر أن أسعد بلقائك، وأتعرف عليك وجهًا لوجه، بعد أن عم صيتك الآفاق. وقال: وهذه زوجتي تشهد أن لقاءك هو من المقاصد الأساسية لزيارتي. وإننا في مصر نعتز بك ونعتبرك رمزًا للإسلام المعتدل المستنير، الذي ينظر إلى العالم من أفق واسع هو أفق التعاون والتسامح ... وإنك بمفردك مؤسسة دينية تعادل المؤسسة الرسمية، وقد تتفوق عليها. وقد رزقك الله حب الناس في كل مكان.

ثم قال: وإن هذا ليس رأيي وحدي، ولكنه رأي جمهور المثقفين في مصر، بل أقول لك: إنه رأي الجهات الرسمية؛ فالجميع يقدرك، ويعدك فخرًا للأزهر ولمصر، ويعرف منزلتك في فقه الدين وحُسن عرضه، والدفاع عنه أمام من يعاديه.

شكواي من إيقافي في المطار:

وهنا قلت له: فلماذا يوقفونني في المطار كلما دخلت إلى مصر، ويأخذون جوازي ولا يعيدونه إلي إلا بعد ساعة، أو تزيد؟

قال: من يقوم بذلك؟

قلت: يقوم به المسئولون عن الأمن: رجال زكي بدر (وزير الداخلية في ذلك الوقت) وأمثالهم في المطار، وإن كانوا - والحق يقال - يتعاملون معي في غاية الأدب والذوق.

قال: سأنقل هذا إلى الجهات العليا، وأعتقد أنهم لا يقبلون ذلك، ولا يرضيهم.

توتر العلاقة بين الحركة الإسلامية والحكومة:

قلت له: أنا لا يهمُّني كثيرًا موقفي بوصفي فردًا، وإن كنت أحب أن أعامل كما يعامل المواطنون الشرفاء في الأوطان الحرة الكريمة، ولكن الذي يهمني أكثر هو العلاقة بين الحركة الإسلامية والحكومة، فليس من مصلحة أمتنا هذا التوتر أو الصدام الظاهر والخفي بين الطرفين. وكم أتمنى أن يكون لك دور في إصلاح ذات البين، والتقريب بين الطرفين.

قال: هذه أمنية نتمنّاها جميعًا، وندعو الله أن يكون لنا حظّ في تحقيقها، أو تقريبها.

وبعد ذلك تحدّثنا في القضايا العربية والإسلامية التي تشغل الساحة يومئذ، ومنها: العلاقة بين مصر وإيران، والموقف بين السنة والشيعة، وكانت آراؤنا متقاربة إلى حد كبير. ثم ودّعته وانصرفت، متمنيًا له إقامة طيبة في الدوحة، وعودة بالسلامة إلى مصر.

.................

(1) متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734) عن أنس.

(2) متفق عليه: رواه البخاري في المنابر (3560)، ومسلم في الفضال (2327) عن عائشة.