مزايا فتاواي في نظر الأستاذ أبو شقة:

في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، اتّجه التفكير إلى تجميع ما تيسّر من «فتاوِيَّ» المتناثرة، وقد طلب ذلك مني عدد من الأصدقاء والمحيطين بي. أهمهم الأخ الكريم الحبيب الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله، الذي ألحّ عليَّ بجمع مادة الكتاب، وخصوصًا ما أذاع تلفزيون قطر في برنامجه الأسبوعي المسمّى «هَدْي الإسلام«.

وقال: إنَّ فتاواك تتميز بعدة أمور:

منها: أنها مدلَّلة، فكل حكم معه دليله.

ومنها: أنها لا تتعصّب لمذهب معين، ولا لمدرسة خاصة.

ومنها: أنها تعيش في واقع الناس وتتعامل مع مشكلاتهم وهمومهم، ولا تحلّق في الخيال.

ومنها: أنها تذكر الحكم مقرونًا بحكمته، ومقصده الشرعي.

ومنها: أنها تخاطب العقل المعاصر، وتتحدث بأسلوب العصر، فهي مفهومة للكل.

ومنها: أنها تتبنى التيسير لا التعسير، اتباعًا للمنهج النبوي.

وقال الأستاذ عبد الحليم: لقد رحّب الناس بمنهجك الفقهي، وأسلوبك في كتابة الفقه، حين كتبت «الحلال والحرام في الإسلام»؛ وهذه الفتاوى تتمة لهذا الكتاب.

اختيار الأستاذ أبو شقة عنوان «فتاوى معاصرة»:

وكنت قد اخترت لها عنوان «من هدي الإسلام» مقتبسًا من اسم البرنامج الذي أقدمه في تلفزيون قطر منذ نشأته وإلى اليوم، ولكن الأخ عبد الحليم رأى أن يضيف إلى هذا العنوان عنوانًا آخر أدل على المضمون والمقصود، وهو: «فتاوى معاصرة». فقد كان حريصًا على إبراز هذه الصفة: أنها إجابات عن أسئلة الناس، وأن هذه الإجابات بنت عصرها وواقعها.

وهكذا ظهر الكتاب، وكان ناشره الأخ عبد الحليم نفسه، الذي طبع لي قبل ذلك كتاب: «الاجتهاد في الشريعة الإسلامية» مع نظرات في الاجتهاد المعاصر.

اشتغالي بالفتوى منذ زمن مبكر:

وأودّ أن أذكر هنا أو أذكر أني شُغلت بالفتوى منذ زمن مبكر في حياتي. فقد بدأت في ممارسة الدروس الرمضانية في مسجد المتولّي بالقرية، وأنا ابن السادسة عشرة. ومن جلس مجلس الدرس لا بدّ أن يسأله الناس، ولا بدّ له من أن يجيب عن أسئلتهم.

كما قمتُ بتدريس «الفقه» لأهل القرية، وأنا ابن الثامنة عشرة، حيث كنت في السنة الأولى الثانوية بالمعهد الديني في طنطا.

وكنت أستعين في إجاباتي بعد توفيق الله تعالى، بما درسته في الأزهر، وبقراءاتي الخاصّة، وبمخزوني مما سمعته من مشايخ القرية طوال فترة صباي. ولكني كثيرًا ما كنت أخرج عن المألوف من إجابات المشايخ المعتادة إلى إجابات كثيرًا ما كانت تحدث ضجة في المجتمع القروي.

وحينما أصبحت في كلية أصول الدين، وبات عمري أربعًا وعشرين أو خمسًا وعشرين سنة، وكنت أخطب في مسجد آل طه بالمحلة الكبرى، كثيرًا ما كنت أعقد جلسة للإجابة عن أسئلة الجمهور فيما يهمهم في أمور دينهم وإسلامهم.

وهذا ما سلكته حين عُيِّنت خطيبًا بمسجد الزمالك بالقاهرة فكثيرًا ما كنت أعقد جلسة بعد الجمعة للرد على استفتاءات الناس.

برنامج «نور وهداية» و«هدي الإسلام»:

واستمر هذا الاتجاه في قطر... وعندما أنشئت إذاعة قطر، ابتدأت معها برنامج «نور وهداية» للإجابة عن أسئلة الناس ورسائلهم، وكان يقرؤها عليّ الإذاعي الشهير الأستاذ محمود الشاهد مراقب البرامج في إذاعة قطر.

وقد ظل هذا البرنامج في الإذاعة حوالي سبعة عشر عامًا، ثم طلبت الإعفاء منه، إذ كنت مشغولًا ببرنامج آخر مثله، ولكنه في التلفزيون، وهو برنامج «هَدْي الإسلام» الذي ما زال تلفزيون قطر يقدمه إلى اليوم، فاكتفيت بالبرنامج المرئي عن البرنامج المسموع، ولا سيما أن موضوعهما واحد.

برنامج «الشريعة والحياة»:

ولما ظهرت قناة «الجزيرة» عرض علي الإخوة المسئولون في الجزيرة: الشيخ حمد بن ثامر، والأستاذ محمود السهلاوي: أن أقدّم برنامجًا دينيًا يقوم على الحوار، ويتلقّى أسئلة الناس على الهواء، مرة كل أسبوع، فرحّبت بذلك كل الترحيب، وقام برنامج «الشريعة والحياة»، الذي كان له صداه في أنحاء العالم، وخصوصًا لدى من يعرفون العربية، والذي استمر منذ بدء قناة الجزيرة إلى اليوم. وسنتحدث عن ذلك في الجزء القادم ولله الحمد والمنة.

ظهور الجزء الأول من «فتاوى معاصرة»:

المهم أني استجبت لطلب الأستاذ «أبو شقة»، وجمعت مادة الجزء الأول من إجابات تلفزيون قطر، فُرغت من الأشرطة على الورق، ولم أكد أعمل فيها قلمي إلا قليلًا.

وظهر الجزء الأول بهذه الصورة، تلمح فيها صورة الارتجال، وبعد ذلك أمسى جلّ اعتمادي على الكتابة: أن أعيد تحرير الإجابة وأسطرها بقلمي. فهذا أدق وأضبط وأقدر على الاستيفاء والاستيعاب.

ولقد صدر من «فتاوى معاصرة»: ثلاثة أجزاء، والجزء الرابع يوشك أن يتم ليذهب إلى المطبعة بتيسير الله. (1)

استفتاءات تشمل كل جوانب الحياة:

ومن الناس من يضيقون ذرعًا بالفتاوى إذا خرجت عن الإطار الديني المحض من الصلاة والصوم والزكاة والحج والرضاع والزواج والطلاق، لتسأل في أمور اقتصادية، أو أمور سياسية أو أمور طبية أو فلكية، مما للدين صلة به. ويقول هؤلاء، وهم عادة من أعداء الدين: ما لعلماء الدين يدسُّون أنوفهم في كل شيء، ويريدون أن يفتوا في كل أمر من أمور الحياة؟

ولا ذنب في الحقيقة لعلماء الدين، إنما الذنب للدين نفسه، الذي ألزم الفرد، وألزم الجماعة أن ينقادوا لحكم الدين، وأن يسألوا أهل الذكر فيما يجهلونه أو يشتبه عليهم من الأحكام.

وهؤلاء يريدون أن يسلخوا الإسلام من شموله وتكامله، فهو يوجه الحياة كلها فردية واجتماعية، وفق أمر الله ونهيه... وهذه فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، وفتاوى العلامة رشيد رضا، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت وغيرهم، وفتاوى المفتين الكبار، مثل الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ حسن مأمون، والشيخ جاد الحق، وغيرهم، وهو ما نشرته وزارة الأوقاف فيما يقرب من عشرين مجلدًا. نجدها قد شملت كل جوانب الحياة.

بل إنّ كثيرًا من المصلحين يأخذون على علماء الدين استغراقهم في أحكام الحيض والنفاس والطهارة والنجاسة والرضاع وغيرها، مهملين الأحكام الخاصة بالمجتمع والأمة.

إنَّ الإسلام ينكر على المسلم - محكومًا كان أم حاكمًا - أن يقتحم الأشياء، ويخوض في الأمور، من دون أن يسأل نفسه: أهذا مشروع أم غير مشروع؟ وإذا كان هو لا يعرف الحكم فلم لا يسأل العالم الثقة: أهذا جائز أم غير جائز؟

كما ينكر الإسلام عليه: أن يسأل غير الثقات من أهل الجهل أو أهل الهوى، فيضلّه على علم، كما جاء في الحديث المتفق عليه: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا».(2)

السؤال عما يهم أمر الأمة:

وفي مقابل هؤلاء العلمانيين والليبراليين، نجد من الإسلاميين: من يضيق ذرعًا بالفتاوى التي تقتصر على الفرعيات الجزئية أو الجزئيات الفرعية، ولا نسأل فيما يهم أمر الأمة.

لا نسأل عن تزوير الانتخابات: أهو حلال أم حرام؟

لا نسأل عن كبت الحريات: أهو معروف أم منكر؟

لا نسأل عن إهدار حقوق الإنسان: في أي خانة من الذنوب يوضع؟

لا نسأل عن تجار المخدرات: أيجوز انتخابهم للمجالس النيابية أم لا؟

لا نسأل عن مشروعية محاكمة المدنيين في محاكم عسكرية لا تتوافر فيها مقومات العدالة المحكمة التي تتوافر في المحكمة المدنية.

لا نسأل عن حكم تعذيب المتهمين - وخصوصًا السياسين - لإكراههم على الاعتراف بما تريده السلطة.

وغير ذلك من الأسئلة التي تحرج أصحاب السلطة التنفيذية.

إن الدين ينبغي تحكيمه في حياة الناس حتى تستقيم على الحق، وتمضي على الطهر، وتتحرى العدل والبر، وتبتعد عن الإثم والعدوان. وما حكم به الدين يحب أن يتبع وينفذ، كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (النور:51).

.................

(1) وقد صدر بفضل الله وعونه. 

(2) متفق عليه: رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)، كلاهما في العلم عن عبد الله ابن عمرو.