في شهر مايو سنة 1990م فجعنا بنبأ وفاة أخينا وصديقنا الكريم، الداعية الكبير، والبرلماني المصري الشهير، الشيخ صلاح أبو إسماعيل، الذي سعدنا به منذ زمن قريب في قطر، وودَّعناه ذاهبًا إلى «أبو ظبي» لتسجيل حلقات مطلوبة منه في تفسير القرآن الكريم على ما أذكر.

وقد أطال الشيخ المقام في أبو ظبي... كلما عزم على الرحيل، ألّحُوا عليه ليتأخر لمزيد من التسجيل، والشيخ يُراعي خاطرهم، ويستجيب لهم، مع أنه كان مراهقًا، وفي حاجة إلى الاستجمام والراحة، ولا سيما في مثل سنه وحالته الصحية. وقديمًا قالوا: من الحب ما قتل! ومن الحب ما يمرض ويؤذي! أو كما قال أبو الطيب:     ومن الصداقة ما يضر ويؤلم!

وأخيرًا سمح للشيخ أن يسافر ويعود إلى وطنه، وكان عادة يسافر وحده بلا رفيق، وفعلًا حزم أمتعته، وذهب إلى مطار أبو ظبي مرهقًا شديد الإرهاق. وفي مطار أبو ظبي، وهو ينتظر إقلاع الطائرة، مسترخيًا في صورة نائم، وافاه الأجل ونفدت آخر قطرة في سراج العمر، وفوجئ الناس بالشيخ، وقد فاضت روحه إلى بارئها راضية مرضية إن شاء الله {وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].

كان الشيخ صلاح داعية مرموقًا، له شخصيته المتميزة، وله أسلوبه الخاص، وله جمهوره المحبّ له، وكانت له عقلية علمية منفتحة على التراث وعلى العصر، ولسان فصيح، وحديث عَذب، ونفسية مشغولة بهموم الناس، شغلها بنصرة الدين، وقلب شجاع لا يخاف في الله لومة لائم، ووجه هادئ باسم، تحس أن وراءه نفسًا زكية، وسريرة طاهرة، إلى روح فكهة، تتذوق النكتة المصرية، وتساهم فيها.

قارئ مفسّر داعية:

كان حافظًا متقنًا للقرآن الكريم، يُحسن تلاوته وترتيله بصوت جميل، كثيرًا ما كان يدعي في مآتم منطقته ليقرأ القرآن، ولكنه لم يكن يتقاضى عليه أجرًا، ثم تميَّز عن القراء الآخرين بأنه يقرأ الربع ثم يفسِّره للناس، وكان له فيه تذوُّق، وحُسن فهم. فهو قارئ وداعية.

نجاحه الباهر في الانتخابات:

وهذا هو الذي عرّف الناس به، وعرَّفه بهم، فلما رشّح نفسه لمجلس الشعب كان أهل منطقته جنودًا له، يفدونه بأنفسهم وما ملكت أيديهم، حتى إنهم كانوا يستميتون في حراسة صناديق الانتخاب، ويستقتلون في الدفاع عنها، حتى لا تُسرق وتبدَّل بصناديق أخرى. وهذا هو ما جعل الشيخ ينجح في مرات كثيرة رغم أنف الحكومة، ورغم التزوير المكشوف في أكثر الدوائر.

حيلة لطيفة لحفظ الصناديق من التبديل:

وقد هداه ذكاؤه إلى حيلة لطيفة لحفظ الصناديق من التبديل، وهو أن يعطي كل مسئول عن صندوق «قرش صاغ» يضعه في الصندوق، ويقول: هو مندوب عني، ثم بعد ذلك لا يقبل صندوقًا إلا إذا وجد فيه القرش! وإلا كان معناه أنه غيّر.

شعاره في الانتخابات:

كان شعاره في الانتخابات: أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين. وكان هتاف الناس له: «يحيا العلم، ويحيا الدين. وعاش الشيخ أبو إسماعين» والعامة في مصر ينطقون لام إسماعيل نونا.

معرفتي بالشيخ صلاح أبو إسماعيل:

عرفت الشيخ صلاح أبو إسماعيل أول ما عرفته، عندما كنا طلابًا في الكليات، كنت في كلية أصول الدين، وكان هو في كلية اللغة العربية، وكان كلانا من طلاب الإخوان المسلمين. كنت مسئولًا عن طلاب الإخوان في كليات الأزهر، ومعهد القاهرة، وكان هو مسئولًا عن طلاب كلية اللغة العربية، وكنا نلتقي في اجتماعاتنا الدورية، وفي المركز العام، وفي رحلات إلى جبل المقطم، وفي مخيمات تربوية يقيمها الإخوان بين حين وآخر.

ثم تخرجنا، جاءت محن الإخوان، وفرّقت بيننا الأيام، وأعرت إلى قطر، وبقيت فيها واستقر هو في مصر. ثم جمعنا العمل الدعوي العام في أقطار شتى، ومناسبات عدة، في ندوات ومؤتمرات ولقاءات: في مصر، وفي قطر، وفي الجزائر، وفي السودان، وفي المملكة العربية وفي الإمارات والكويت وغيرها من بلاد الإسلام، وخارج بلاد الإسلام.

وكان الشيخ صلاح رجلًا محبَّبًا إلى كل من يعرفه، لذكاء عقله، وسعة علمه، ودمائه خلقه، ولطف معاشرته، وسماحة نفسه، وإشراقة وجهه، وابتسامة ثغره، وتوقُّد حماسه، وتواصل نشاطه، وصبره على العمل والتنقل والحركة، رغم ضخامة جسمه، وثقل وزنه، لكنه كان قوي العزيمة، عالي الهمة، عميق الإيمان، عظيم الأمل في انتصار الإسلام، شديد اليقين بنجاح دعوته، إذا وجدت الداعية المؤهَّل باليقين والأخلاق والعلم والحضور وحسن الطريقة.

الصوت الجهير في مجلس الشعب:

كان صوته جهيرًا في مجلس الشعب المصري، الذي مثَّل دائرته فيه لعدة دورات. وكان مطالبًا بتحكيم الشريعة، داعيًا إلى الحريات، ولا سيما الحرية السياسية، منتقدًا للأوضاع العوج بصراحة وقوة، مستفيدًا من حصانته البلمانية. وقد ظل يسعى ويجتهد في المجلس حتى أصدر جملة من القوانين الموافقة للشريعة الإسلامية، ولكنها ظلت حبيسة الأدراج، لم تخرج إلى النور، لأنه لم توجد «الإرادة السياسية» التي تتبناها وتحولها إلى واقع مشهود.

شهادته الصريحة في محكمة أمن الدولة:

ولقد دعته محكمة أمن الدولة، التي كانت تحاكم «تنظيم الجهاد» ليدلي بشهادته باعتباره شاهد نفي، وبوصفه أحد علماء الأزهر، الذين اشتهروا بالدعوة إلى الإسلام في مصر وغيرها، وقد أدلى الشيخ في المحكمة بشهادته الخطيرة الصريحة التي هزت الدنيا، وزلزلت أركان الحكم في مصر! وقد نشرها في كتاب بعنوان «الشهادة».

دعوة جمع غفير من الدعاة إلى قريته:

في إجازة من إجازات الصيف، دعا عددًا من شيوخ العلم والدعوة «أذكر منهم شيوخنا: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وجمًّا غفيرًا من الدعاة لم أعد أذكرهم» إلى قريته بهرمس، مركز إمبابة، في محافظة الجيزة لنطلع على المؤسَّسات التي أنشأها من تعليمية وصحية واجتماعية، وأقام لنا وليمة كبرى في بيته، جمع فيها ما لذ وطاب، إكرامًا لإخوانه، وقد مازحته يومها فقلت له: يا شيخ صلاح، الصوفية يقولون: العادة تثبت بمرة واحدة! فقال: وأنا موافق، وليتكم في كل صيفية تكرمونني بهذه الزيارة، فأنا والله الفائز. وأحسب أننا زرناه مرة أخرى، ولكن كان العدد محدودًا، وليس كالمرة الأولى.