غزو صدام لدولة الكويت:
أنست بنا ابنتنا إلهام في منزلها وأنسنا بها أيامًا عدة. ثم فوجئنا وفوجئ العالم كله، بنبأ يذيع التلفزيون البريطاني، لم يكن يخطر بالبال. نبأ زلزل الدنيا وشغل الخلق، وتحرك له الناس في المشارق والمغارب، لا يكادون يصدقونه، ذلك النبأ هو: غزو صدام حسين لدولة الكويت، وذلك في أغسطس سنة 1990.
أهذا حلم أم حقيقة؟
صدام يغزو الكويت الجارة والشقيقة التي وقفت جواره في حربه مع إيران، وأمدته بالمليارات، يهجم عليها بقوة ووحشية، اضطر أكثر أهلها أن يغادروها قهرًا، حتى الأمير وولي العهد والوزراء وغيرهم، تركوا البلد طالبين النجدة من الأشقاء والعالم.
وقف أحدهم يقاوم، فأطلقوا عليه الرصاص، فسقط قتيلًا، وهو الشيخ فهد الأحمد. ولم يقف الأمر عند الكويتيين وحدهم، بل كثير من العرب الذين كانوا يعملون في الكويت، مثل المصريين والسوريين وغيرهم، ركبوا سياراتهم مع أهليهم وأولادهم، تاركين كل شيء وراءهم، في سبيل النجاة بأنفسهم.
ذهب الكويتيون إلى البلاد العربية التي يرون أنها آمنة بالنسبة لهم مثل مصر، وبعض بلاد الخليج. وحمل بعضهم ما تيسّر له من الدنانير الكويتية التي باتت برخص التراب.
تعاطف الناس مع الكويتيين:
وتعاطف الناس مع الكويتيين الذين أمسوا ما بين عشية وضحاها: فقراء بعد غنى، خائفين بعد أمن، سائحين في الأرض بعد عيشة السِّعة والرغد في القصور والفيلات. حتى كان سائق التاكسي المصري إذا ركب معه واحد من هؤلاء، رفض أن يقبض منه أجرًا. وقد حدث أن سافر قطري ووقع له ذلك، وأبى السائق بشمم أن يتناول منه شيئًا، وقال له: ألستم إخواننا؟ ألا نشارككم محنتكم؟ فقال له الراكب: أنا لست كويتيًا أنا قطري!
محنة قاسية:
كانت محنة قاسية على أهل الكويت، وقد دخلت قوات صدام وجنوده، فنهبت وسلبت، وحملت سيارات كبيرة من قصور الكويتيين من الأثاث والأدوات والتحف: ما يقدر بالمليارات، بل نهبت المحلات التجارية، وفتحت مخازنها، ونُقِل ما فيها إلى بغداد وسائر مدن العراق. لم يكن غزوًا نظيفًا، بل كان أشبه بعمل اللصوص وقطّاع الطريق. وكان الضباط والجنود يتصرّفون تصرف من لا يعلم أن أحدًا سيحاسبه يومًا.
مؤتمرات صدام الإسلامية:
كان صدام قد مهَّد لذلك بمحاولة كسب الرأي العام العربي إلى صفه، فبدأ يتظاهر بأنه مع الإسلام، وأنه لم يعد متمسكًا بأفكار البعث، أضاف إلى عَلَم العراق: كلمة «الله أكبر».
ودعا أكثر من مرة إلى مؤتمرات عنده، حشد فيها من علماء الدين من استطاع حشده، من بلاد العرب والمسلمين، ليعلن أنه ليس ضد الدين... بل هو ناصر الدين!
وفي آخر مؤتمر عقده، شارك فيه عدد كبير من علماء الأمة منهم شيخنا الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري من قطر، وغيرهما.
وقد حرص على أن يجتمع بالشيخ الغزالي قبل سفره اجتماعًا خاصًّا طال لمدة ساعتين، وتأخرت الطائرة التي تقلّه، حتى ينتهي الاجتماع. وقال الشيخ الغزالي: يبدو أن الرجل تغيَّر، وسبحان مقلب القلوب!
وعاد الشيخ الأنصاري يتحدث عنه، وكأنه أحد أبطال الإسلام!
وكان أخونا الشيخ أحمد البزيع ياسين في الكويت من أكبر الدعاة لصدام، وكنت أختلف معه بشدة حين نلتقي في اجتماعات مجلس إدارة الهيئة الخيرية الإسلامية، وهو أمين الصندوق فيها، وكان يقول لي بثقة واعتزاز: إنه فحل العرب!
أحسب أنه كان - بهذه الأمور كلها - يهيئ النفسية العربية، والذهنية العربية، لما يريد أن يفعله.
عدم استجابتي لحضور مؤتمرات صدام:
وأحمد الله أني لم أشارك في شيء من هذا، وقد دُعيت أكثر من مرة لمؤتمرات صدام، وألحَّ عليَّ في الدعوة: السفير العراقي في قطر، ولكني اعتذرت، وأصررت على الاعتذار. وكانوا يقولون في العراق: هناك عالمان فقط لم يستجيبا لدعوة العراق أو دعوة صدام: أبو الحسن الندوي في الهند، ويوسف القرضاوي في قطر. وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس.
وقد جسَّ صدام نبض أمريكا، بحديثه مع السفيرة الأمريكية في بغداد... ماذا يكون موقف أمريكا لو غزا العراق الكويت؟
وقالت السفيرة: سيادة الرئيس، ليس بيننا وبين الكويت معاهدة دفاع مشترك!!
فكأن هذا النوع من الإذن، أو التحريض على فكرة الغزو.
بقينا أيامًا في لندن أو ضاحيتها مع إلهام وأولادها، نراقب الأحداث، ونتابع التلفازات، ووكالات الأنباء، ولا نكاد نصدّق ما جرى ويجري، من هول الصدمة.
بعد أيام، كان لا بد لنا أن نعود إلى القاهرة، لبقاء أيام قليلة، ثم نحزم أمتعتنا إلى الدوحة، فقد أوشك العام الدراسي أن يدخل.
الرجوع إلى الدوحة:
رجعنا إلى الدوحة، لنستأنف العام الدراسي، ليذهب التلميذ إلى مدرسته، والطالب إلى جامعته، والموظف إلى عمله.
وكان محمد قد تخرج في كلية الهندسة، وعُيِّن معيدًا، وعبد الرحمن ينجح في كليته بامتياز، وأسامة قد دخل كلية الهندسة، وإلهام وسهام تعملان للحصول على الدكتوراه من إنجلترا: إلهام من جامعة لندن، وسهام من جامعة ريدنج. وأسماء حصلت على الماجستير من جامعة الخليج في البحرين. وتتهيأ للابتعاث للدكتوراه بتوفيق الله تعالى.
بداية العام الدراسي بالدوحة (1990 - 1991)
واحتلال الكويت هو القضية الأولى
عدنا إلى الدوحة، في بداية العام الدراسي 1990 - 1991، أو قبله بقليل. والعالم كله يصبح ويمسي، وليس له حديث إلا غزو العراق للكويت، وما وقع لأهل الكويت من مآسي، وكيف تفرقوا في البلاد، بعد العز والرفاهية، ولا سيما أن الكويتيين معروفون بالعُجْب والزهو، فأمسى حالهم، كحال ابنة النعمان بن المنذر ملك الحيرة، بعد زوال ملك أبيها، وهي التي قالت:
فبينا نسوسُ الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصَّفُ
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ** تقلَّب تارات بنا وتصرَّفُ
والمفروض أني في هذه السنة معار إلى جمهورية الجزائر، وعلي أن أستعد لذلك، على أن أباشر عملي هناك من أول شهر أكتوبر.
خطبة تاريخية في مسجد عمر بن الخطاب:
وفي هذه الأثناء، خطبت خطبة تاريخية في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، حول العدوان على الكويت. دنت فيها هذا الغزو الآثم، الذي يتَّسم بالحماقة وعدم التدبر في العواقب، كما يتَّسم بالغدر بشقيق وقف معه في وقت الشدة، فهو يجزي الإحسان بالإساءة، وهو يقسم العرب في وقت يحتاجون فيه إلى التوحد والتلاحم، وهو يعيدنا إلى عهد الجاهلية حيث يغير الأخ على أخيه بأدنى سبب. كما قال قائلهم: وأحيانًا على بكر أخينا ** إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقد حذرنا رسولنا من ذلك حين قال في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»(1)... ثم هو يفتح الباب للتدخل الأجنبي، بعد أن تحررت المنطقة منه إلى حد كبير.
ولا أذكر بالضبط ما قلته في هذه الخطبة، وأعتقد أنها مسجلة، وقد أذاعتها إذاعة الكويت التي كانت تعمل من خارج الكويت، وظلّت تعيدها وتكررها عدّة مرات في كل يوم من أيامها الأولى(2).
مؤتمر العلماء بمكة المكرمة:
ثم تداعى العلماء والدعاة وأهل الرأي إلى مؤتمر للعلماء بمكة المكرمة، للبحث في الغزو العراقي للكويت، وكيف ننقذ الكويت؟ وما الواجب على الأمة؟ وما الواجب على العلماء؟
وقد حضرت شخصيات كثير من أقطار شتى من بلاد العرب، وبلاد العجم، وتحدّثوا واقترحوا وناقشوا. وقد ألقيت كلمة قوية متوازنة حازت القبول لدى الحاضرين.
مدى مشروعية الاستعانة بالأمريكان:
وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي مدة مشروعية الاستعانة بالأجانب من غير المسلمين، كالأمريكان وحلفائهم.
وكنت معي جماعة من المشاركين نتخوَّف من هذا الأمر: أن يدخلوا ديارنا فلا يخرجوا منها، ويتشبَّثُوا بالبقاء في أرضنا، ولا نملك أن نحاربهم، وهم الذين أعانونا في حربنا، وهم الذين يملكون كل وسائل القوة وأدواتها. فالأولى أن يتعاون العرب والمسلمون بعضهم مع بعض، لمقاومة هذا العدوان وطرده، وتحرير الكويت من نيره.
وقال القائلون: إنِّ هذا إغراق في الخيال، فجيش صدام - من حيث عدده وعتاده وسلاحه وتدريبه - لا يمكن أن تحاربه جيوش عربية أو إسلامية. لا يستطيع محاربته إلا أمريكا. وقد اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحروب، وأجاز أكثرهم الاستعانة بهم إذا كانوا مؤتمنين.
وكان الرد على ذلك بأن هذا في الاستعانة بالكافر على الكافر، لا في الاستعانة به على المسلم. ثم معنى الاستعانة بالكافر: أن تكون أنت صاحب السلطان والقوة والنفوذ، ويأتي هو عونًا لك. أنا الواقع هنا فهو أن الأجنبي هو الذي بيده القوة والسلطان والأمر والنهي، وهو الذي بيده كل شيء، فالواقع أنه هو الأصل، ونحن الفرع، هو الذي يستعين بنا، ولسنا نحن الذين نستعين به!
الاستعانة بالكفار للضرورة:
واستمر النقاش طويلًا في ذلك، ولكن الذي حسم النزاع هو قولهم: إننا أمام ضرورة، ليس لنا خيار غيرها. إما أن نقبل ما وقع، ونرضى بضياع الكويت دولة، وابتلاع صدام لها، وإما أن نقبل الاستعانة بقوة أمريكا وحلفائها، فهي وحدها القوة القادرة على الردع. وما دمنا أمام ضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.
وبهذا انتصر رأي القائلين بجواز الاستعانة بأمريكا، على أن تخرج فورًا من المنطقة بعد إنهاء احتلال الكويت، لأنه أمر محظور أبيح للضرورة، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
على أن تقرير هذا من الوجهة النظرية سهل، ولكن الصعب هو تنفيذه، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول للقوة المقتدرة المنتصرة: ارحلي عنا، وارجعي من حيث جئت!
موقف بعض علماء السعودية المضاد للاستعانة:
وكانت هناك فئة من علماء السعودية قد اتخذت موقفًا مضادًا لهذا الاتجاه، معارضة لمقررات هذا المؤتمر الذي كان على رأسه مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز، وعلى رأس هؤلاء العلماء المعارضين الشيخ الدكتور سفر الحوالي، الذي أعدّ دراسة قيمة حول الموضوع، بيَّن فيها: أن أمريكا هي التي خطَّطت لهذا الأمر، وبيَّنت له من قبل، وجهّزت «قوات الانتشار السريع»، وكان صدام أداتها في تنفيذ مخططها من حيث لا يدري، فقد درست نفسيته، واستغلت طموحاته في تحقيق أهدافها في السيطرة على المنطقة.
أهمية الجمع بين العلم الشرعي والفقه السياسي:
وهذه نقطة مهمة تسجّل لإخواننا من شباب العلماء والدعاة في المملكة، الذين جمعوا إلى العلم الشرعي: الفقه السياسي، ووقفوا موقف المعارضة لسياسة الحكومة، وسياسة كبار المشايخ. فحيَّاهم الله وجزاهم خيرًا: الحوالي والعودة والقرني والعمر وإخوانهم، الذين وُضعوا في القائمة السوداء، وجرى لهم بعد ذلك ما جرى من محن، ندعو الله أن تكون في ميزانهم حسنات ودرجات.
موقف جماعة الإخوان المسلمين من الاستعانة بالأمريكان:
وكانت جماعة الإخوان المسلمين منقسمة في هذا الأمر، فمنهم من حضر هذا المؤتمر، وإن كان له بعض التحفّظ على بعض قراراته، بينهم الشيخ مناع القطان، والشيخ عبد المجيد الزنداني، والدكتور الحبر نور الدايم، والشيخ عبد الله المطوع، والفقير إليه تعالى. كما أذكر من المشاركين الدكتور نجم الدين أربكان.
وأغلب الإخوان كانوا معارضين بشدة للاستعانة بالأمريكان، وأنَّ هذا شر على العرب والمسلمين، وإن كان الجميع يعارض غزو الكويت ويندد به، ويطالب صدام بالجلاء الفوري عن الكويت.
.................
(1) متفق عليه: رواه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (65) عن جرير بن عبد الله البجلي.
(2) انظر: «خطب الشيخ القرضاوي» (3/142).