أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن صاحب السلطة الوحيدة في التحريم الدائم هو الله عز وجل، مشددا على أن نصوص القرآن والسنة الصحيحة هي الأصل في هذا المضمار، وبخلاف ذلك لا يملك أي بشر سلطة التحريم مهما كانت وضعيته...
جاء ذلك في سياق حلقة برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة الأحد 11/3/ 2007، فيما يعد جزءا ثانيا لحلقة الأسبوع الماضي التي تناولت الحديث عن المبادئ الكلية للحلال في الإسلام.
بداية، أوضح الشيخ أن "العلة من وجود المحرمات كونها حقا من حقوق الله عز وجل على عباده في أن يشرع لهم كما يشاء وأن يأمرهم وينهاهم بحكم خلقه لهم وإنعامه عليهم (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة ...) (لقمان: 20). فالأمر والنهي والتحليل والتحريم من شئون الألوهية، ورغم ذلك أعلمنا سبحانه وتعالى في كتابه أنه لا يُحل لنا إلا طيبا ولا يُحرم علينا إلا خبيثا، فلو حرم شيئا فإنما لخبثه وضرره على الخلق سواء عرفوا ذلك الخبث لظهور حكمة تحريمه، أو لم يعرفوه وخفي عنهم؛ فالعلة في المحرمات هي مصلحة الخلق التي قد لا تتحقق إلا من خلال سلطة عليا تكون ملزمة لهم".
واستطرد الشيخ: "رغم أن التحريم يتبع الخبث والضرر دوما (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) . إلا أن اليهود عوقبوا بتحريم بعض الطيبات في اللحوم والإبل (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً.وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:160 ،161)".
ويتابع: "فلما جاء المسيح أحل لهم بعض ما حُرم عليهم، ثم جاء الإسلام ليحل باقي المحرمات؛ لأن هذه الأمور لم تكن محرمة بذواتها وإنما كانت محرمة للعقوبات، وهذا هو علة تحريم تلك الطيبات (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...) (الأعراف: 157)".
كيف تعرف الحرام؟
ثم انتقل الشيخ من بيان علة التحريم إلى الحديث عن المبادئ التي يمكن أن نعرف بها الحرام بقوله: "إن الأصل في المحرمات هو ما حرمه القرآن الكريم ثم ما بينته السنة"، مشددا على أن "القول بالاكتفاء بالقرآن لا يصح"، وأوضح أن "في نصوص القرآن دلالة واضحة وصريحة عن ترك ما نهى النبي صلى الله وسلم عنه، قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (الأنفال:1). (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:7)".
ثم تابع قائلا: "الحقيقة أن ما يحرمه الرسول في أغلب الأحيان هو مما استنبطه من القرآن الكريم، فلو نظرنا إلى قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ...) (النساء:23) نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم العلة التي من أجلها حرم الإسلام الجمع بين الأختين، وقاس عليها ذوات الرحم المحرم.. العمات والخالات (لا يُجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) رواه البخاري".
مثال آخر لاستنباط النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أحكام التحريم يوردها الشيخ قائلا: "حمل الإسلام على الترف الذي هو مفسدة للأمم ومهلكة للبشر، وكذا المترفين الذين اعتبرهم أعداء كل إصلاح وكل رسالة، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، واستنادا إلى هذه المبادئ جاءت السنة محرمة لبعض النماذج التي اعتبرتها مجسدة للترف، كتحريم أواني الذهب والفضة (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) رواه البخاري؛ لذلك ينبغي أن تطاع السنة في المحرمات إذا ثبتت بحديث صحيح الثبوت صريح الدلالة".
ونبه الشيخ على أنه "بخلاف نصوص التحريم الإلهية ونصوص السنة الصحيحة لا يملك أي بشر أن يحرم تحريما دائما، نعم بالإمكان القول بالتحريم المؤقت لمصلحة ما، مثل تحريم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذبح في بعض الأوقات، وهذا ما قد يفعله البعض، وإنما التحريم الديني الدائم لا يجوز إلا لله عز وجل؛ لأنه من اختصاص الألوهية".
واستطرد قائلا: "لذا عاب النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ...) (التوبة:31)، قال عدي بن حاتم عندما سمع الآية وكان نصرانيا: ما كنا نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلوه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم. أي أعطيتموهم حق التشريع والتحليل والتحريم المطلق، وهذا من حقوق الله عز وجل، قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59) ، وفي الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) رواه مسلم؛ فسلطة التحليل والتحريم هي من حق الله سبحانه وتعالى الخالق البارئ وحده، وليست من سلطة أي مخلوق".
صغائر ولكن!
انتقل الشيخ بعد ذلك إلى بيان بعض الأمور المتعلقة بالمحرمات، فقد تحدث عن النية نافيا أن تكون النية الطيبة مسوغا لارتكاب المحرمات، وتابع: "نعم قد تؤثر في المباحات وتجعلها عبادات، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) رواه مسلم. فالنية الصالحة عند إتيان تلك المباحات تحولها لعبادات، وذلك بخلاف المحرمات التي لا تحولها النوايا الطيبة لمباحات أبدا، فلا يمكن أخذ الفوائد الربوية لبناء المساجد، فالله عز وجل طيب ولا يقبل إلا الطيب، ففي الإسلام لا بد أن تكون الغاية شريفة والوسيلة نظيفة.
وأكد الشيخ على أن معنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ...) (النجم:32) هو: العفو عن مرتكبي صغائر الذنوب كما عرفها البعض، أو عن من لم يصروا على الكبائر، وعادوا إلى رشدهم بسرعة وندموا على ما فعلوا؛ فقد علم الله عز وجل ضعف الإنسان أمام غرائزه فأراد أن يخفف عنه (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). إلا أنه عاد وحذر من أن يتمادى الإنسان في هذه الأمور على اعتبار أنها صغائر، مطالبا إياه بتوخي الحذر واجتناب الشبهات، إذا اشتبه فيها الدليل، فالورع يقتضي ذلك، ففي حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). فمن اتقى الشبهات طلب البراءة لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ لأن الصغيرة تجر الكبيرة كالراعي يرعى الحمى يوشك أن يرتع فيه".
فقه المآلات
وتوضيحا لبعض القواعد الفقهية تحدث الشيخ موجِزا عن قاعدتي "فقه المآلات"، و"سد الذرائع" فأشار إلى أن "فقه المآلات نوع مهم جدا من الفقه نبه عليه الأصوليون والمحققون، ويعني أن تنظر إلى الفعل والنتائج التي تترتب عليه... فقد يكون الفعل مباحا، لكن يترتب عليه أمر فاسد أو سيئ، وقد وضح العمل بهذه القاعدة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما اقترح عليه البعض أن يتخلص من المنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخشى أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. في حملة إعلامية مضادة. وعلى هذه القاعدة تترتب قاعدة أخرى هي سد الذرائع".
ويكمل الشيخ: "قاعدة سد الذرائع مع أهميتها إلا أن توسع بعض العلماء في استخدامها لتحريم المباحات جعلها من الأمور الخطيرة"، مشيرا إلى أن حدود تطبيق تلك القاعدة تكمن في "أن يكون الأمر الذي نسد الذريعة إليه متيقنا أو مرجح الوقوع بمعني أن يكون عندنا أدلة وقرائن قوية، فلا نقول لا تزرعوا العنب؛ خشية اتخاذه خمرا فالمبالغة في سد الذرائع غير جائزة".