السؤال: هل يجوز قتل أسرى الكفار في الحروب؟ أم يجب استبدالهم بالأسرى المسلمين؟
جواب سماحة الشيخ:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
من نتائج الحرب: أن يكون هناك أسرى من الفريقين، وبحثنا هنا عن أسرى أعداء المسلمين، إذا وقعوا في أيديهم كما حدث في غزوة بدر وغزوة بني قريظة، وغزوة بني المصطلق وغيرها. وكيف يعامل المسلمون أسراهم؟
ونبادر فنقول: إن الإسلام يوجب معاملة الأسرى معاملة إنسانية، تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم، وتصون إنسانيتهم، ويعتبر القرآن الأسير من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية، مثل المسكين واليتيم في المجتمع. يقول تعالى في وصف الأبرار المرضيين من عباده، المستحقين لدخول جنته، والفوز بمرضاته ومثوبته، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (الانسان:8-10).
ويخاطب الله نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام في شأن أسرى بدر فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} (الأنفال:70) فهو يأمره أن يخاطبهم بما يلين قلوبهم، ويجذبهم نحو الإسلام.
أما الأحكام المتعلقة بالموقف مع الأسرى، وماذا يجب أن نصنع معهم ، فقد نص القرآن على ذلك في آية صريحة من آياته في السورة التي تسمى سورة محمد أو سورة القتال، وهي قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد:4).
لا أسر قبل إثخان العدو
ومِن التعاليم الحربية التي أدخلها الإسلام في نظم الحرب: أن لا يتم الأسر للأعداء في المعركة قبل "إثخان العدو"، ومعنى إثخانه: إضعافه وكسر شوكته، حتى لا يعود لقتال المسلمين مرة أخرى. من أجل هذا عاتب الله النبي والمسلمين بعد معركة بدر: أنهم سارعوا إلى الأسر، والعدو لم يزل قوي الشوكة، راسخ الجذور، متمكنًا من الأرض، فلا غرو أن يفكر في الثأر لنفسه والانتقام من المسلمين، والعودة إلى قتالهم، وفي هذا جاء قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:67).
وفي الآية إشارة تحمل لوما للمسلمين: أنهم كانوا يريدون من الأسر أن يستفيدوا ماليًا من الفداء الذي يمنح لهم في مقابلة فكهم وإطلاقهم، وهو معنى قوله: {...تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}. والآية -كما نرى- واضحة الدلالة على منع الأسر قبل الإثخان في الأرض، والعتاب فيها على هذا الأسر: الأسر قبل الإثخان وليس على أخذ الفداء بعد الأسر، كما هو مشهور في السيرة.
يؤيد هذا قوله تعالى في سورة محمد: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، والمراد بشد الوثاق: الأسر، ولكن لا ينبغي أن يكون هم المقاتلين من أول الأمر أسر العدو، بل يجب أن يكون الهدف الأول إضعاف قوتهم، وتحطيم شوكتهم، ولا سيما أن الأسر فيه مظنة ابتغاء الدنيا بالفداء بالمال.
وبعد تحقق هذا في الإثخان والإضعاف يسوغ للمقاتل أن يأسر ما شاء، بل هو مأمور بهذا (فشدوا الوثاق) إذ ليس سفك الدماء هدفًا في ذاته من أهداف الإسلام، فليس في الإسلام ما في التوراة من وجوب ضرب جميع الذكور بحد السيف، إذا تمكنوا منهم، فلا مجال لأسر ولا شد وثاق. وماذا ما بعد شد الوثاق، أي ما بعد الأسر، ما حكم هؤلاء الأسرى؟
القرآن هنا يخيرنا بين أمرين في التعامل معهم، وهما: المنّ والفداء ولم يذكر غيرهما، ومعنى "المنّ": إطلاق سراح الأسير لوجه الله تعالى، لنتألف قلبه، ونحبب إليه الإسلام، حيث فككنا أسره دون مقابل.
ومعنى "الفداء": أن نفدي الأسرى بأسرى مثلهم في العدد أو أقل أو أكثر، حسب المصلحة، فرب أسير منا له وزن وقيمة، نفديه بأكثر من أسير لنا عندهم، والعكس يحدث أيضًا، وقد يكون الفداء بمال، كما فعل الرسول والصحابة معه في أسرى بدر، حيث طلبوا الفداء بالمال لمسيس حاجتهم إليهم وقدرة أهليهم من قريش عليه.
وروى البخاري في "باب فداء المشركين" في الجهاد: حديث أنس بن مالك: أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ائذن لنترك لابن أختنا عباس (بن عبد المطلب) فداءه، فقال: "لا تدعون منها درهمًا"! وفي معركة بدر: سن الرسول صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى سنة مهمة، وهي: أن يؤدي من ليس لديه مال خدمة مناسبة للمجتمع المسلم، يقدر عليها الأسير، ويحتاج إليها المسلمون .
ومِن أجل هذا شرع الرسول الكريم لمن كان يعرف الكتابة من أسرى المشركين: أن يكون فداؤه "تعليم عشرة" من أولاد المسلمين الكتابة. ولم يخش النبي صلى الله عليه وسلم على أبناء المسلمين من تأثير هؤلاء المشركين على عقول الصغار من ذراري المسلمين، فإن محو الأمية لا يحمل معه فكرًا ولا اعتقادًا، ثم هم في قلب المجتمع المسلم، وتحت رعايته وإشرافه ورقابته .
وقد كان زيد بن ثابت الأنصاري - كاتب الوحي، وأحد كتبة المصحف الإمام ـ بل قائد المجموعة - أحد الذين تعلَّموا الكتابة في هذه الفرصة؛ وبهذا كان النبي "الأمي" أول من حارب "الأمية" بطريقة عملية، تعتبر خطوة سباقة في ذلك الزمن السحيق.
هل يسترق الأسير أو يقتل؟
وهناك حكمان آخران ذكرهما الفقهاء يتعلقان بأسرى الأعداء، وهما: الاسترقاق والقتل، وهذان الحكمان لم يذكرا في القرآن كما ذكر المنّ والفداء وإنما أخذا من السنة النبوية ومن عمل الصحابة والخلفاء الراشدين .
جاء عن الحسن البصري: أنه لا يحل قتل الأسير صبرًا وإنما يمن عليه أو يفادى. أخرج ذلك الطبري عنه، وأبو جعفر النحاس، واستدل بقول الله تعالى في سورة محمد: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..}. (محمد:4). وهذا قول الضحاك والسدي، وهو قول عطاء.
وفي مقابل هذا القول: من قال: لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل، ولا يجوز أن يؤخذ منهم فداء، ولا يمن عليهم. وجعلوا قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: من الآية 4) منسوخًا بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (التوبة: من الآية 5). قال النحاس: هذا قول قتادة، ومروي عن مجاهد.
والقول الثالث: أن الآيتين جميعا محكمتان، وهو قول ابن زيد. قال النحاس: وهو صحيح جيد بيّن؛ لأن إحداهما لا تنفي الأخرى. قال الله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} (التوبة: من الآية 5) أي خذوهم أسرى: للقتل أو المن أو الفداء. فيكون الإمام ينظر في أمور الأسارى على ما فيه الصلاح (أي للمسلمين) من القتل أو المن أو الفداء. وقد فعل هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه، فقتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر، ومنّ على قوم، وفادى بقوم .
وقيل له -يوم فتح مكة: إن ابن خطل يتعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه. وهو في عداد الأسارى وقد أمر بقتله. وعمر أراد قتل أبي سفيان قبيل فتح مكة، لولا أن أمّنه العباس. وهذا اختيار الطبري الذي رد النسخ، لإمكان الجمع بين الآيتين، والنسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بينهما بوجه من الوجوه. قال: وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى رسول الله وإلى القائمين بعده بأمر الأمة. اهـ.
والذي أرجحه من استقراء النصوص، ورد بعضها إلى بعض: أن الأصل ما ذكره الحسن ومن وافقه أنه: لا يجوز قتل الأسير العادي، وإنما يعامل وفق آية سورة محمد التي تحدد كيفية التعامل مع من شددنا وثاقهم من الأسرى (فإما منا بعد وإما فداء).
ولكن يستثنى من ذلك: من نسميهم في عصرنا "مجرمي الحرب" الذين كان لهم مع المسلمين ماض سيئ لا يمكن نسيانه، مثل عقبة بن أبي معيط وابن خطل ويهود بني قريظة وأمثالهم، فهؤلاء يجوز أن يحكم عليهم بالقتل جزاء ما اقترفت أيديهم من قبل. فهؤلاء يعاملون معاملة استثنائية، وتطبق عليهم آية سورة التوبة.
والله أعلم