نقد عصام تليمة

رد العلامة القرضاوي

نقد عصام تليمة

لعل كثيراً من الناس يعرف ما بيني وبين الشيخ القرضاوي من علاقة، وأعترف بداية بما للشيخ عليّ – بعد الله – من فضل، ولم تكن علاقتي به يوماً علاقة المرؤوس مع رئيسه في العمل، وأشهد أنها دوماً كانت عاطفة الأبوة والبنوة، وعاطفة المعلم مع تلميذه، بما تمثله هذه العلاقة من عطف وحب وتقدير، وبث ما في جعبته – وهو معين لا ينضب – من حنان وخبرة وعلم، بل في كثير من الأحيان كنت أبثه همومي – رغم أعبائه وهمومه ومشاغله – فكان نعم العون لي عليها.

ولقد كتبت في شهر رمضان الماضي ثلاثين حلقة في جريدة (الشرق) عن فقه الشيخ، ونظرات في فقهه، وأثره في الفقه الإسلامي، ورددت على معظم الشبهات التي تثار حول فقهه، وخالفته الرأي في بضع مسائل.

وأقف اليوم مرة أخرى موقف الناقد، فقد علمنا الشيخ: عدم التعصب لرأي مهما كان قائله، وأنه لا قداسة لرأي في الإسلام، ولا يوجد من هو أكبر من أن يُنصح، ولا يوجد من هو أصغر من أن يَنصح. وأن نكون رؤوساً لا ذيولاً، وأن نكون تلامذة لا عبيداً، فالتلميذ يناقش أستاذه فيما يقول، أما العبد فهو أسير ما يلقنه سيده، أينما يوجهه لا يأتي بخير.

ونقد الشيخ القرضاوي وتراثه الفكري والفقهي مطلوب بإلحاح، فهو ليس معصوماً، بل نقد الفكر المعاصر للعلماء عامة مطلوب بشدة، حتى يثرى الفكر الإسلامي، وعلى العلماء أن يفسحوا صدورهم لمن ينقد فكرهم، بل لابد أن يشجعوا هذا النقد، فهم أول من يستفيد، ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا الذي كتب بعد أن تولى رئاسة تحرير مجلة (المنار) – خلفاً للعلامة المجدد محمد رشيد رضا – مقالاً بعنوان (دعوة لانتقاد المنار) وفعلاً انتقده القراء، واتهموه بأنه غير خط المنار العلمي، ورد عليهم، وسعد بهذا النقد.

ورحم الله العلامة المودودي حينما انتقده الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه (التفسير السياسي للإسلام) فرحب المودودي بنقد الندوي، بل دعاه إلى أن ينظر إلى بقية مؤلفاته بالنقد.

وأبدأ بتقديم نموذج لنقد فكر وفقه الشيخ، ولست بنقدي هنا عاقاً للشيخ، ولا متنكراً لفضله عليّ شخصياً، وعلى الأمة الإسلامية، ولكنه الإسلام الذي علمنا أنه لا يوجد بشر فوق النقد، ولا أحد أعلى من أن يستخدم القلم الأحمر في فكره.

الأول: من أهم ما وصف به شيخنا العلامة القرضاوي: أنه لا يقلد غيره، ولا يكرر نفسه. وفي الآونة الأخيرة لاحظت – ولاحظ قارئوك – أن بعض أفكار وصفحات كاملة في كتبك الجديدة مقتبسة من كتبك السابقة، فهل هذا أتى من باب التكرار، أم أن له سبباً علمياً؟

الثاني: لقد تجاوزت كتب الشيخ القرضاوي المائة كتاب وأكثر، فهل يأتي الكم على حساب الكيف، أم أن فضيلتك تراعي أن يسير الكيف والكم جنباً إلى جنب؟

ثالثاً: إن رأيك في الغناء يثير كثيراً من المتدينين، والعلماء وطلبة العلم، وأرى أن هناك لبساً في الموضوع، فما أعلمه عنك أنك لم تبح الغناء يوماً، بل قيدته تقييداً شديداً، ولكن من يقرأ كتبك لا يفهم هذا جيداً، وبخاصة أن من يقرأ كلامك، تظل في ذهنه صورة الغناء المعاصر بمجونه وخلاعته، وما فيه من عري وصخب، هذا الغناء الذي صار لا هم له ، إلا جلب الكاسيات العاريات، اللائي لا وظيفة لهن في الأغنية إلا هز الأرداف والأخصار، فأقول لشيخنا: هل من توضيح لموقفك بجلاء ووضوح في الغناء، وبخاصة الغناء المعاصر؟

وختاماً أرجو ألا يضيق صدر شيخي بما أبديه من نقد. فما أتى إلا من قلم يحبه في الله، ولكن لا يعميه الحب عن النقد البناء.

لقد كانت هذه الأسئلة في رسالة خاصة بيني وبين الشيخ، وقد رد عليّ كتابي وأعطاني الرد، ولكنني رأيت في نشرها ما يوضح بعض الغموض، وبعض ما يثار حول الشيخ. وهذا رد الشيخ:

إلى أعلى

رد العلامة القرضاوي

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

الابن العزيز: عصام

قرأت ما كتبته وما أثرته من نقد لم تخرج به عن إطار البنوة، ولا عن حدود أدب الاختلاف، وأقول إجابة عما أثرته من نقد.

أما عما ذكرت من تكرار في بعض كتبي، مما كتبته في كتب أخرى قديمة فأقول: من فضل الله عليّ أني لا أحب أن أكرر نفسي، كما لا أحب أن أقلد غيري.

ولا أحب أن أكتب في موضوع إلا إذا كان عندي شيء جديد أضيفه أما مجرد تكرار ما قاله الآخرون، فليس هذا من شأني وكثيراً ما تطلب مني الكتابة في موضوعات معينة فأعتذر، لأني لم يفتح عليّ فيها بشيء أضيفه إليها.

ومن نظر إلى قائمة كتبي وجد كل كتاب فيها أضاف شيئاً، ابتداء من أول كتاب دخلت به حلبة التأليف، وهو (الحلال والحرام) الذي كان بشكله ومضمونه جديداً وأصيلاً، واستقبله المسلمون في العالم الإسلامي بقبول حسن، وترجم إلى لغات لا أستطيع حصرها، وقامت حوله الدراسات، وقدمت أطروحات.

أما ما ذكره من يسأل عن بعض ما يلحظه من تكرار في بعض مؤلفاتي الأخيرة، فأود أن أرده إلى أسبابه

فمن هذا التكرار ما هو مقصود بالفعل، مثل أخذ بعض فصول من كتب معينة، لإصدارها في رسائل صغيرة الحجم، رخيصة الثمن، ميسرة للقراءة، ولا سيما أننا في عصر يسميه بعض الناس (عصر الساندوتش) وهذا ينطبق على الغذاء المادي، والغذاء الثقافي.

لهذا اقترح عليّ بعض الأخوة من الدعاة المتمرسين أن أقتبس بعض الفصول المهمة من كتبي الكبيرة نسبياً، لأخرجها في رسائل، فاستجبت لهم، وأخذت مثلاً فصلاً من كتابي (بينات الحل الإسلامي) لأخرجه في رسالة من (رسائل ترشيد الصحوة) وهو فصل (الدين والعلم).

وكذلك أخذت أكثر من فصل من كتابي (ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده) ليصدر في رسائل مثل (جريمة الرد وعقوبة المرتد)، (مركز المرأة في الحياة الإسلامية) كما أخذت من كتابي فتاوى معاصرة ( فتاوى للمرأة المسلمة) و (النقاب للمرأة بين القول ببدعيته والقول بوجوبه) ونحو ذلك.

ومن التكرار: ما تقتضيه ضرورة الموضوع المكتوب فيه، فقد يكتب الإنسان في موضوع معين، ضم جزء من كتاب، ثم يحاول أن يفرد كتاباً خاصاً كاملاً في الموضوع ذاته، فلا حرج أن يستفيد المؤلف من كتاباته السابقة في الموضوع، ويضمها إلى كتابه الجديد.

مثال ذلك: إني كتبت عن فهم القرآن وتفسيره في كتابي (المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة).

ثم صنفت بعد ذلك كتابي (كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟) وفيه عدت إلى الكتابة عن تفسير القرآن بتوسيع وتفصيل وتعميق، فلم يكن يسعني إلا أن أستفيد مما كتبته من قبل.

ومثل ذلك حين كتبت عن (المدخل إلى معرفة الإسلام) فذكرت فيه عن (العقيدة وخصائصها) واستفدت مما كتبته قديماً في كتابي (الإيمان والحياة).

أما عن سؤالك: هي يأتي الكم على حساب الكيف؟

فلم يكن همي في أي مرحلة من حياتي – ولله الفضل والمنة – العناية بـ (الكم) ولو على حساب (الكيف) أو بـ (الشكل) على حساب (الجوهر).

وفي كتابي (في فقه الأولويات) جعلت من الأولويات الأساسية التي يجب أن تراعى: (أولوية الكيف على الكم).

وفي كتابي الحالي الذي أعده عن ترشيد الصحوة الإسلامية المعاصرة والذي سميته (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد): فصل – بل هو الفصل الأول – بعنوان: (الصحوة من الشكل إلى الجوهر).

وهذا ما عنيت به طوال عمري التأليفي، والذين يعرفونني عن كثب، يعلمون أنني أتعب في إعداد ما أصنفه من كتب، وأتحرى وأدقق في إخراجها إلى حد سماه بعض إخواني بـ (الوسوسة) وقد يظل الكتاب عندي سنين طويلة، ولا أخرجه إلى الطباعة والنشر، لأنني غير راض عنه.

وعندي ملفات مفتوحة لبعض الكتب المستقبلية، من سنين طويلة، أضع فيها كل ما يصلح لها من أفكار وتأملات أدونها، ومن ثم نقول تخدمها.

وأنا أضع أمام القارئ آخر دفعة صدرت من كتبي خلال السنة الأخيرة لينظر فيها ويحكم بالقسط: أهي كم بلا كيف؟ أفيها أصيل وجديد أم لا؟ وهي:

1.              أمتنا بين قرنين.

2.              ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق.

3.              رعاية البيئة في شريعة الإسلام.

4.              الجزء الثالث من (فتاوى معاصرة).

5.              الجزء الرابع من (حتمية الحل الإسلامي) بعنوان (أعداء الحل الإسلامي).

6.              الإيمان بالقدر.

7.              حاجة البشرية إلى رسالتنا الحضارية.

8.              المسلمون والعولمة.

وقد تلقاها المسلمون بالقبول والثناء حتى إن دار الشروق ناشرة كتابي (أمتنا بين قرنين) و (ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق) أبلغتني أن المسلمين في أندونيسيا طلبوا الإذن بترجمة الكتابين إلى الإندونيسية ونشرهما هناك.

وأحسب أن الذين أثاروا قضية (الكم) لم يقرؤوا كتبي، ولكنهم استكثروا على رجل مثلي مشغول في المؤتمرات والندوات والبرامج الفضائية: أن يكون له مثل هذا الإنتاج الوفير.

وهو سؤال طالم وجه إليّ من قديم، في أكثر من بلد وأكثر من سائل: كيف استطعت أن تجمع بين المشاركة الملحوظة في أنشطة شتى وبين التأليف العمي الغزير، المعترف بهفي أنحاء العالم، والذي ترجم معظمه إلى عدد من اللغات؟

وقد قلت لهم، وما زلت أقول:

أولاً: إن هذا من فضل الله عليّ، وتوفيقه لي، أن رزقني البركة في وقتي، ولا أقول إلا ما قال سيدنا شعيب (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) وما قاله الشاعر قديماً:

إذا لم يكن عون من الله للفتى         فأول ما يجني عليه اجتهاده

فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وثانياً: أنني أعمل نحو خمس عشرة ساعة تقريباً يومياً، ولا أكاد آخذ لنفسي أجازة، لا في صيف ولا شتاء، وأكتب في كل مكان وفي كل حين وعلى أية حال.

أكتب في المطارات وأنا أنتظر الطائرة، وأكتب وأنا في الطائرة وأكتب وأنا في الفندق، كما أكتب أكثر ما أكتب في منزلي، أو في صومعتي.

وقد رآني أحد الأخوة الأصدقاء – المعنيين بالفكر والثقافة – يوماً في سفر من القاهرة إلى لندن، ووجدني منهمكاً في الكتابة، فلحظت عليه الدهشة والاستغراب وسألني، تكتب في الطائرة؟ قلت: نعم، عندي نحو أربع ساعات، هل أضيعها؟ قال: وكيف تكتب بلا مراجع؟

قلت: ليس كل ما يكتب يحتاج إلى مراجع، هناك من الكتابة ما هو (تأملات) مرجعها هو الفكر الإنساني، وهناك كتابة من (المخزون الثقافي) للكاتب، وما فيها من نصوص ونقول أكتبها من الذاكرة – ولا تزال بحمد الله تسعفني – ثم أوثقها بعد ذلك.

قال: وهذا ما لا يقدر عليه كل الناس، وهو سر الوفرة في إنتاجك، وهو من نعم الله تعالى عليك.

قلت: أقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وأتغنى بقول الشاعر:

لك الحمد مولانا على كل نعمة       ومن جملة النعماء: قولي (لك الحمد)

أما عن موضوع الغناء: فقد أشاع بعض الناس عني أني أبيح الغناء بإطلاق، فهذا محض افتراء، وما قلت ذلك قط، لا مشافهة ولا تحريراً.

ومن قرأ ما كتبته من قديم في كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) أو ما كتبته في كتابي (فتاوى معاصرة) أو ما كتبته في فصل (اللهو والفنون) من كتابي (ملامح المجتمع الذي ننشده) وكذلك في رسالة (الإسلام والفن) من رسائل ترشيد الصحوة الإسلامية .. من قرأ ذلك كله، فسيرى بوضوح أنني لم أطلق الإباحة يوماً ما، بل قيدت الإباحة بقيود، وضبطتها بضوابط، من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث المضمون، ومن حيث الشكل والأداء، ومن حيث ما يصحب الغناء من أمور قد تنقله من الحل إلى الحرمة، ومن الجواز إلى المنع.

وبهذا أعلن أن الغناء بصورته التي يقدم بها اليوم في معظم التليفزيونات العربية والقنوات الفضائية، مما يصحبه من رقص وخلاعة وصور مثيرة لفتيات مائلات مميلات، كاسيات عاريات، أو عاريات غير كاسيات، أصبحت ملازمة للأغنية الحديثة .. الغناء بهذه الصورة قد غدا في عداد المحرمات بيقين، لا لذاته، ولكن لما يصحبه من هذه المثيرات والمضلات، فقد تحول الغناء من شيء يسمع إلى شيء يرى وبعبارة أخرى: تحول من غناء إلى رقص خليع.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

الفقير إلى الله تعالى

إلى أعلى