د. يوسف القرضاوي

ثَمَّة طريق ثالثة - بعد طريق العبادات وطريق الآداب - لغرس "الربانية" وتثبيتها، ولعلها أعظم الوسائل خطرًا، وأبعدها أثرًا، وهي التربية، فلا بد أن تقوم التربية في البيت أولاً، وفي المدرسة ثانيًا ـ على غرس الربانية في عقول الناشئة وضمائرهم، باستخدام أحسن الوسائل، وأفضل الأساليب.

وإذا كان الأب مسئولاً عن تغذية طفله ماديًّا، فلا يهمله حتى يتعرض جسمه للهزال أو للمرض أو للموت؛ فهو مسئول عن تغذيته روحيًّا، فلا يجوز له أن يهمله حتى يتعرض لما هو أشد خطرًا من هزال البدن أو مرضه، أو حتى موته، وذلك حين يتعرض لموت "القلب" أو "الروح" وفي ذلك هلاكه للأبد! ومن هنا كانت المسئولية خطيرة: "كلكم راع ومسئول عن رعيته" (1).: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم:6) .

ومن هنا أمر الآباء أن يدربوا أبناءهم على طاعة الله وأداء فرائضه منذ بلوغهم سنًّا يقبلون فيها التعليم، وهي السابعة، والتشديد عليهم إذا بلغوا العاشرة كما جاء في الحديث: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين" (2). والأمر بالضرب هنا ليس مقصودًا به التعذيب أو التنكيل، ولكن لإشعار الصبي والصبية بمدى جدية الأب في طلبه للعبادة، وغضبه من عصيانه في ذلك، كما يغضب من أي أمر يطلبه من ولده فيرفضه، ولا يلقي له بالاً.

والأم شريك الأب في المسئولية، فهي راعية في بيتها، ومسئولة عن رعيتها، كما أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (3). ولعل مخالطتها للصغار ـ وبخاصة البنات ـ وتأثيرها فيهم يكون أقوى من الأب في كثير من الأحيان. والمدرسة مسئولة كذلك عن تربية أبنائها وبناتها على معاني الربانية.

ولا يكفي المدرسة أبدًا أن تزود التلميذ بالخبرات والمهارات، المادية والفنية، أو بالحقائق والمعلومات عن البيئة والحياة من حوله. ثم تدعه ضالاًّ جاهلاً بقضايا الوجود الكبرى، التي تحيره، وتلقي عليه أسئلة لا يجد لها جوابًا من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وإلى أين يذهب بعد رحلة الحياة؟ وهل له من رسالة بين مجيئه وذهابه ـ أو بين حياته وموته؟ وما هي ومن يملك تحديدها؟ وما جزاؤها إن هو أداها على وجهها، أو فرط في أدائها؟

إن الإيمان بالله هو الذي يجيب عن هذه الأسئلة بما يقنع العقول، ويريح الضمائر، ويشرح الصدور، أغنى إيمان الإسلام خاصة، لأنه هو الذي خلا من أغاليط البشر، وأوهام البشر، وشطحات البشر، وتناقضات البشر.

والمدرسة التي لا تغرس الإيمان في النفس، لا تخرج إلا أجيالاً حائرة متناقضة، تركب سفينة الحياة، وتخوض عباب محيطها المضطرب، بلا ربان ولا مرشد، ولا خريطة ولا "بوصلة" ولا منار، لا تهتدي إلى شاطئ ولا أمل في أن تهتدي.

إن التربية والتعليم من مهمة النبوة، وقد كان مما امتن الله به على العرب أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران:164) . وتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: "إن الله بعثني معلمًا ميسرًا"(4) . وأشاد بفضل المعلمين فقال: "إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلمي الناس الخير"(5) .

وأعظم خير يُعلَّم للناس، أن يعرفوا ربهم، فيعرفوا بذلك مبدأهم ومصيرهم وسر وجودهم. أي يعرفوا أنفسهم على حقيقتها، فمن عرف ربه فقد عرف نفسه. كما أن من عرف نفسه ـ كما هي- فقد عرف ربه.

.....

- المصدر: "الخصائص العامة للإسلام" لسماحة الشيخ.

(1) متفق عليه: رواه البخاري في الاستقراض (2409)، ومسلم في الإمارة (1829)، عن ابن عمر.

(2) رواه أحمد (6756) وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود في الصلاة (495)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (301)، قال الألباني في صحيح أبي داود (509): إسناده حسن صحيح، عن عبد الله بن عمرو.

(3) إشارة إلى الحديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته... والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"، وقد سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

(4) رواه مسلم في الطلاق (1478)، وأحمد (14515)، عن جابر.

(5) رواه الترمذي في العلم (2685)، وقال حديث حسن صحيح غريب، والطبراني في الكبير (8/ 234)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1838)، عن أبي أمامة.