د. يوسف القرضاوي

 

من دلائل الحكمة التي ينبغي أن يحرض عليها الخطاب الديني الإسلامي المعاصر: المحافظة على مراتب الأعمال وقيمها ونسبها الشرعية، وقد ناقشت هذه القضية من قديم في كتابي «الصحوة بين الجحود والتطرف» فقد رأيت من الخلل الواقع في فهم كثير من فصائل الصحوة الإسلامية، والجماعات الدينية، وكثير من الدعاة والوعاظ والخطباء الدينيين: أنهم أخلوا بالنسب الشرعية بين الأعمال بعضها وبعض. فكبروا الأمور الصغيرة، وصغروا الأمور الكبيرة، وعظموا الأمر الهين، وهونوا الأمر الخطير، وقدموا ما حقه التأخير، وأخروا ما حقه التقديم.

 

فمن المعلوم أن الشرع الإسلامي قد أعطى لكل عمل من الأعمال «تسعيرة» تحدد قيمته بالمعيار الشرعي، فالمأمورات منها: أركان وغير أركان، وغير الأركان منها واجبات ومنها سنن، والمنهيات منها: ما هو من الكبائر وما هو من الصغائر، والصغائر منها ما هو محرم بيقين، ومنها ما اختلف فيه، وبقى في مرتبة الشبهات، ومنها: المكروه تحريما، والمكروه تنزيها. فلا يجوز أن نذيب الحواجز بين هذه الأمور، وننظر إلى السنة نظرتنا إلى الفرض، أو ننظر إلى الصغيرة نظرتنا إلى الكبيرة، أو ننظر إلى المختلف فيه نظرتنا إلى المتفق عليه. فمن الخلل الخطير: أن نجعل بعض الأمور الأساسية هامشية، والهامشية أساسية.

 

أجل، لا يجوز أن نضخم بعض الأشياء ونعطيها أكبر من حجمها، ولا يجوز أن نبالغ في تقديم بعض الأشياء أو إعطائها أوسع من مساحتها، فهذا سيكون قطعا على حساب غيرها، فمن الحكم المأثورة والتي ثبت صدقها: ما رأيت إسرافا إلا بجانبه حق مضيع. لقد رأيت بعض الدعاة والخطباء الدينيين يسرفون في بعض الأمور وعرضها على الجمهور، وليس لها في المصادر الإسلامية هذا الحجم، فبعضهم: ألقى أكثر من عشر خطب في «الجن» وعلاقته بالإنسان، ومس الجن، وركوب الجن الإنسان، إلى آخر ما هو معروف في هذا الجانب.

 

وبعضهم ألقى «تسع محاضرات» في تحريم حلق اللحية، كأنها من فرائض الدين، أو أركان الإسلام. وبعضهم ألقى مجموعة خطب في فرضية «لبس النقاب» وتحريم كشف الوجه، واعتبار الوجه عورة، وحشد من الأقوال والنصوص ما يؤيد وجهة نظره، مغفلا رأي الجمهور الذي يرى أن الوجه والكفين ليسا بعورة. وبعض الوعاظ ألقى أكثر من خطبة في «عذاب القبر» وذكر من الأحاديث الواهية والموضوعة ما يدخل الرعب في القلوب، من حيات كالأفيال، وعقارب كالبغال. والعجيب: أن هذه الخطب تحول إلى أشرطة «كاسيت» تسجل وتذاع وتباع للعامة، الذين تستهويهم المبالغات والتهاويل.

 

وقد حكي لي أحد الآباء: أن ابنته وعمرها عشر سنوات تستيقظ من الليل، وهي تصرخ مرعوبة، فلما سألته: هل هناك حادث وقع لها، أو شيء ما أدى إلى ذلك؟ قال: إن هذا أصبح يصيبها ويتكرر عليها، بعد أن سمعت شريطا في عذاب القبر لأحد الوعاظ، يتضمن تهويلات تزرع الخوف المرضي في النفوس. ولقد ذكرت في كتابي «كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟» معيارا لمدى الاهتمام بالأشياء والأفكار والأعمال، وهو: أن نهتم بالأشياء على قدر اهتمام القرآن بها، فما أولاه القرآن عناية، وفسح له المجال في سوره وآياته وكرره، وأكده بصورة وأخرى، فهذا دليل على أهميته وضرورته في الدين، ويجب إعطاؤه من المساحة والعناية ما يليق به. وما أولاه القرآن عناية أقل - كأن لم يذكر إلا مرة أو مرتين - فيجب أن يعطى من الاهتمام مثل ذلك. وما أهمله القرآن تماما ولم يكن له ذكر فينبغي ألا نعيره اهتماما، ما لم توجد عوامل أخرى تقتضي التنويه، لسبب وآخر، فتقدر بقدرها.

 

هذا وقد أصدرت كتابا مستقلا، يعالج هذه القضية من جذورها، ويؤصلها تأصيلا شرعيا موثقا بالأدلة من نصوص الشرع ومقاصده، سمته «فقه الأولويات». وينبغي على الدعاة والمتقدمين للخطاب الديني أن يقرءوه ويتدارسوه. من الحكمة إذن: أن نحسن ترتيب ما نأمر به، وما ننهى عنه، بحيث يأتي كل شيء في موضعه، وفي أوانه، وفي مرتبته.

 

ليس من الحكمة: أن نكلم الناس في إحدى الفرعيات، وهم يخالفون في إثبات الأصول نفسها، كأن تدعوهم إلى صدقة التطوع، وقد منعوا ركن الزكاة، أو إلى صلاة الضحى، وقد ضيعوا صلاة الفريضة. أو تكلمهم في الأوامر والنواهي قبل أن تثبت العقيدة أولا. روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن رسول الله صصص لما بعث معاذا إلى اليمين قال: «إنك تقدم على قوم أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله، «وفي رواية: شهادة إن لا إله إلا الله ... » فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ... » الحديث([1]).

 

فلم يعرض عليهم فرض الصلاة إلا بعد أن يعرفوا الله. وهذا من الحكمة: أن نثبت الأصول ثم ندعو إلى الفروع. وقديما قال أسلافنا: ما حرمنا الوصول إلا بتضييعنا الأصول. ومن مجانية الحكمة: التشديد في النوافل، وقد أهمل الناس الفرائض. ومن قواعدنا العلمية الموروثة: إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة. ومن حكم السلف: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.

 

ومن ذلك: الاشتغال بالمختلف فيه، وقد ضيع الناس المتفق عليه. مثل الانشغال بتغطية وجه المرأة بالنقاب، وعدم الاكتفاء بالخمار «المعبر عنه في عصرنا بــ «الحجاب»» وتأثيم المسلمة المختمرة، في حين أن المعركة الآن لن لم تعد معركة كشف الوجوه، بل كشف الرءوس والنحور والصدور والذراعين والساقين، وما هو أكثر منذ لك. وشارع لبس ما يسمى «الميني جب» و«الميكرو جب» ونحوها. ورأينا الكاسيات العاريات المميلات المائلات.

 

وأذكر أني تكلمت في هذه القضية مع علامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن باز ححح، فوافقني على الاكتفاء من المسلمة في عصرنا بالخمار، على أن تترك البلاد التي التزمت بالنقاب على التزامها. ولقد أنكر بعض الدعاة على شيخنا الغزالي ححح: تقسيمه تعاليم الدين إلى قشور ولباب وقال: هل في دين الله قشور؟ وقلت لهؤلاء: هل ترون أن تعاليم الدين في مرتبة واحدة؟ إن هذا ينافي محكمات القرآن والسنة، ففي القرآن يقول تعالى: {أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِ} [التوبة: 19].

 

وفي السنة نجد الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى من الطريق». فهناك أعلى وأدنى. والقائل: هل في دين الله قشور؟ يرد عليه، بأن عالم الخلق فيه قشور، وكذلك عالم الأمر فيه قشور، والقشور لها فائدتها وحكمتها في العالمين. وقد ذم الله تعالى اليهود بأنهم تمسكوا بالقشور وتركوا اللباب، كما في آية {لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ} [البقرة: 177].

 

.................

 

*من كتاب "خطابنا الإسلامي في عصر العولمة" لفضيلة العلامة.

(1) «البخاري مع الفتح» الحديث (1458) طبعة السلفية، وقد رواه مسلم أيضا.