د. يوسف القرضاوي

أمسى الغرب هو المُهيمن على عالمنا المعاصر، وخصوصًا في عصر التفرُّد الأمريكي، وأضحت ثقافة الغرب هي الثقافة التي تريد أن تفرض نفسها على العالم، وأن تكون هي وحدها (الثقافة الكونية)[1].

ونحن لا نستطيع أن نتجاهل هذا أو نُغفله، وإن كنا نرفض سياسة الهيمنة، وثقافة الهيمنة، ونؤمن بالتنوع والتعدُّدية في كل الأمور: التعدُّدية العِرقية، والتعدُّدية الُلغوية، والتعدُّدية الدِّينية، والتعدُّدية السياسية، وكذلك التعددية الثقافية.

وعلى أية حال، شئنا أم أبينا، لا زالت جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والفكرية متأثرة بالغرب، ولا زالت مصادر أساتذتنا ومثقفينا غربية في معظمها.

وفي جميع دراساتنا الإنسانية والاجتماعية -ولا سيما السياسية- نأخذ عن الغرب، وقلَّ منا مَن يقف موقف النقد والتحليل، بحيث يأخذ ويَدَع، وينتقي ويترك، تبعًا لمعاييره هو، ومعايير أمته وحضارته، لا معايير الغرب وحضارته.

المُهم هنا، أن نَعْرف: ما هو مفهوم السياسة عند الغربيين؟

هنا نجد تعريفات كثيرة لكلمة (السياسة) تختلف باختلاف الاتجاهات وزوايا الرؤى: فالسياسة عند الليبراليين، غيرها عند التَدَخُلِيين، والسياسة عند دعاة المذهب الفردي، غيرها عند دعاة المذهب الجماعي، والسياسة عند دعاة الاقتصاد الحر، أو اقتصاد السوق، غيرها عند الماركسيين أو دعاة التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الإنتاج والتوزيع.

السياسة عند رجال الدِّين الجامدين الذين يرون مقاومة الأمراض والأوبئة: مقاومة لإرادة الله، غير السياسة عند الأطباء ورجال الصحة الذين يرون توفير الصحة العامة، والأدوية وما يتصل بها لكل مريض.

السياسة عند دعاة الدِّين والقِيَم الأخلاقية الذين لا يبيحون الإجهاض بإطلاق، ولا يرون إشاعة الفاحشة في المجتمع من الزنى واللواط والسِّحاق، غير السياسة عند الذين يطلقون العنان للشهوات والغرائز الدنيا، لتقود الإنسان، وتَحكُم الحياة، حتى إنهم يباركون الزواج المثلي، ويؤيدون العُري والشذوذ، ممَّا ترفضه كل الأديان الكتابية. ولهذا تفاوتت التعريفات للسياسة عند كل فريق.

نماذج من تعريفات السياسة:

نذكر هنا نماذج من هذه التعريفات:

قول هانس مورغنتاو: (السياسة: صراع من أجل القوة والسيطرة!) [2].

قول هارولد لاسويل: (السياسة هي: السلطة أو النفوذ، الذي يحدِّد: مَن يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟)[3].

وقول وليم روبسون: (إن علم السياسة يقوم على دراسة السُلطة في المجتمع، وعلى دراسة أُسسها، وعملية ممارستها وأهدافها ونتائجها)[4].

صحيح أنه يتكلم عن (علم السياسة) لا عن السياسة، ولكن نفهم من موضوع العلم مفهوم السياسة التي يعالجها.

فكل هذه التعريفات تدور حول (السلطة) والقوة والسيطرة، ويسأل جان باري دانكان في الفصل الثاني من كتابه (علم السياسة) سؤالا أساسيا: ما هي السياسة؟

ويجيب الكاتب عن السؤال بتفصيل وتحليل وتعميق، استغرق (32) صفحة، وكان مما قاله: (إن هناك استعمالات نوعية لكلمة السياسة، واستعمالات غير نوعية).

ويعني بغير النوعية: تلك التي من السهل أن تستبدل فيه كلمة سياسة بمرادفاتها، ويذكر هنا ثلاثة استعمالات:

الأول: أن كلمة (سياسة) تعادل تقريبا كلمة (الإدارة)، وخصوصا الأمور الجزئية، مثل سياسة النقل، وسياسة الطاقة، وسياسة صناعة السيارات، ونحوها.

الاستعمال الثاني: كلمة السياسة تُعادل كلمة (الاستراتيجية) مثل: سياسة الحزب، أو سياسة النقابة، أو سياسة الحكومة ... إلخ.

والاستعمال الثالث: تتضمَّن كلمة السياسة قِيمة تحقيرية بشكل واضح، حيث تفكر بفكرة العمل المكيافللي، المراوغ والضال.

فهنا ينظر إلى (السياسة) باعتبارها عالما مثيرا للاشمئزاز. والكلمة تستعمل بشكل شائع من أجل الحط من قيمة من تطلق عليه. فعبارة: (هذا من فعل السياسة) هي عبارة تحقيريَّة، وليست تعريفًا)[5].

أقول: وهذا المعنى معروف أيضا في العرف الغربي؛ أن ينسب العمل إلى دهاليز السياسة وألاعيبها. وهو ما يُحكى عن الإمام محمد عبده أنه قال: أعوذ بالله من السياسة، ومن ساس ويسوس، وساس ومسوس. ولا أدري مدى صحة هذا عنه.

وفي الاستعمال النوعي لكلمة السياسة يذكر دانكان: أنه يجب التفريق جيدًا بين السياسة وبين أمور أخرى تتداخل معها وتختلط بها، ولكنها متميزة عنها، مثل التكنوقراط، ومثل السياسة والاقتصاد، أو السياسي والاقتصادي، ومثل السياسة والأخلاق. وقد تحدث المؤلف بتفصيل مميزًا بين هذه المفاهيم بعضها وبعض، فليرجع إليه[6].

وعلى كل حال، تدور السياسة في الغرب حول محورين أو هدفين أساسيين:

أحدهما: القوة والسيطرة.

وثانيهما: المصلحة والمنفعة.

ولا مانع في نظر الشرع الإسلامي من طلب القوة والحصول عليها، ولكن لتكون أداة في خدمة الحق، لا غاية تُنشد لذاتها، والأمة المسلمة يجب أن تكون أبدًا مع قوة الحق لا مع حق القوة. والقوة إذا انفصلت عن الحق أصبحت خطرًا يُهدِّد الضعفاء، ويبطش بكل مَن لا ظفر له ولا ناب، كما حدثنا القرآن عن عاد قوم هود {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].

وكان الغرور بالقوة هو الذي صدَّهم عن اتباع نبيهم الذي بعثه الله إليهم، ليُخرجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن طغيان القوة إلى الالتزام بالحق، ولما لم يُجد فيهم النصح، ولم يصغوا إلى إنذار رسولهم: أخذهم الله بعذابه، فأرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.

وأما المصلحة، فهي مُعتبرة في الشريعة الإسلامية، بل ما شرع الله الأحكام إلا لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، وكل مسألة خرجت من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها بالتأويل، كما قال المحققون.

والمصلحة المرسلة، أي التي لم يَرِد في الشرع دليل باعتبارها ولا بإلغائها: تُعدُّ دليلاً من أدلة الشرع، كما صرح بذلك الإمام مالك، وكما هو الحال في المذاهب الأخرى، كما بيَّن ذلك الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (تنقيح الفصول).

ولكن المصلحة التي ترتبط بها السياسة في نظر الإسلام، والتي يتحدث عنها الغربيون وغيرهم، ليست هي كل ما يُحقِّق اللذة للإنسان، أو يجمع بها لنفسه أكبر قدر من حظوظ الدنيا، ولو كان ذلك على حساب غيره، أو على حساب القِيَم والأخلاق.

بل إن الشارع بيَّن المصالح المنشودة، وربطها بمقاصد تحققها في الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وسنذكر ذلك في حديثنا عن (النص والمصلحة).

................

* من كتاب "الدين والسياسة" لفضيلة العلامة.

[1] انظر: كتابنا: (المسلمون والعولمة) الباب الثاني، تحت عنوان: (عولمة الثقافة) طبعة دار النشر والتوزيع الإسلامية.

[2] انظر: السياسة بين الأمم صـ13 لهانس مورغنتاو. نيويورك 1948م.

[3] انظر: المنهجية والسياسة صـ44 لملحم قربان. بيروت. الطبعة الأولى 1986م.

[4] انظر: مدخل إلى علم السياسة صـ86 لجان مينو ترجمة جورج يونس. منشورات عوبدات، بيروت 1983م.

[5] انظر: كتاب (علم السياسة) تأليف جان ماري دانكان، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا. طبعة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. صـ 23-30.

[6] المصدر السابق صـ 30 وما بعدها.