مقال كتبه سماحة الشيخ القرضاوي رحمه الله عقب رحيل العالم الشيخ محمد الراوي في منتصف عام 2017م:

لقد ودَّعَنا يوم الجمعة السابع من رمضان لسنة 1438م، الموافق الثاني من يونيو 2017م، الأخ العالم الداعية الأزهري الصادع بالحق، الناطق بالصدق، صديقنا وحبيبنا الشيخ محمد محمد عبد الرحمن الراوي، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وعضو هيئة كبار العلماء.

اتفق أنا والشيخ الراوي رحمه الله في أمور عديدة، فكلانا ابن القرية المصرية، غير أنه صعيدي وأنا من الوجه البحري، فهو ابن قرية ريفا محافظة أسيوط، وأنا ابن قرية صفط تراب محافظة الغربية.

وكلانا أزهري تخرج في كلية أصول الدين، وكلانا نهل من معين الحركة الإسلامية، وكلانا نشط في العمل الطلابي في كلية أصول الدين، وكلانا عُيِّن فترة في عمل إداري في وزارة الأوقاف المصرية، بسبب نشاطنا الدعوي والطلابي، وكلانا خطب في مسجد الزمالك، خطبت أنا فيه سنة 1956م بعد العدوان الثلاثي، خلفًا للشيخ محمد الغزالي الذي تسلم وقتها منبر الجامع الأزهر. وخطب فيه الشيخ محمد الراوي بعدي بسنوات. وكلانا كان عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وعضوا بهيئة كبار العلماء.

تعرفت على الشيخ الراوي منذ قرابة ثمانية وستين عامًا، كان ذلك في تأييد مرشح الدعوة المحامي فهمي أبو غدير، الذي رشح نفسه في دائرتين: دائرة الوسطى، وبها "درنكه" بلدة حامد جودة النائب السعدي الكبير، ووكيل مجلس النواب السابق، والدائرة الثانية: دائرة أسيوط.

وقال لنا الأستاذ أبو غدير: ليس النجاح قصدي، ولكن قصدي إحياء الدعوة في الدائرتين، وكان معي في هذه الرحلة الأخ أحمد العسال.

وقد قمنا بجهد طيب ولله الحمد في زيارة قرى دائرة الوسطى، نحدث الناس عن الإسلام ودوره في علاج مشكلاتهم وبناء حياتهم على أسس صالحة، وحاجة الأمة إليه لتحريرها من الاحتلال البريطاني، وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.

وكانت أيامًا حافلة تلك التي قضيناها في أسيوط، وتعرفت فيها على إخوة كرام: محمد الراوي، ومحمد التاجي، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، وعيسى عبد العليم، وأحمد نصير، والدمرداش العقالي... وغيرهم من شباب الدعوة الناهض.

تعرفت في هذه السفرة على الأخ محمد الراوي، وكان في السنة الأخيرة في الثانوية الأزهرية، وكنت في أول سنة لي في كلية اصول الدين، ومما أذكره للأخ محمد الراوي أنه كان إذا تحدث يقول لأهالي الدائرة: نحن لا نعدكم بشيء مما يعد به المرشحون، لا نعدكم بتلك الخدمات اليسيرة التي يبذلها المرشحون، لكننا نريد إصلاحًا شاملًا للإنسان والأمة، لكن نريد أن نأخذ بأيدكم إلى الله، نريد أن نعبدكم لله تعالى.

وعلمت أن خال أخينا محمد الراوي، هو العالم الكبير والواعظ الشهير، المجاهد الأزهري الذي دوخ الإنجليز في القنال، واليهود في فلسطين، الشهيد محمد فرغلي، الذي حكم عليه بالإعدام هو وثلة من خير الإخوان بعد حادث المنسية الشهير عام 1954م.

بقيت الصلة بيني وبين الشيخ محمد الراوي، وتوثقت في العام التالي فقد التحق بكلية أصول الدين، وكنت أسبقه بعام، وكان رئيس اتحاد الطلاب ومسئول النشاط الطلابي الشيخ مناع القطان، ثم خلفته في رئاسة الاتحاد والنشاط الإسلامي في الكلية، وكان الشيخ الراوي له جهده الكبير مع إخوانه في هذا النشاط.

وكان من أهم الأنشطة التي أقمناها في هذه المرحلة: المؤتمر الأزهري العام، الذي عقد في ساحة كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، في مبانيها الجديدة بالأزهر، وقد حضر هذا المؤتمر طلاب الكليات الثلاث، وطلاب معهد القاهرة الديني، وكان من مطالب أبناء الأزهر التي طالبنا بها من قديم، منذ كنا طلابًا في القسم الثانوي، ولم يستجب لها، مثل فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر كغيرهم، وفتح باب الكليات العسكرية- مثل الحربية والشرطة- أمامهم، والعمل كملحقين دينيين في سفارات مصر، وفتح مجالات العمل في المصالح والوزارات المختلفة أمام أبناء الأزهر، وفتح معاهد للطالبات... إلخ.

قدَّمني إخواني وزملائي (أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد الراوي، ومحمد المطراوي، وصلاح أبو إسماعيل، وغيرهم) لأكون المتحدث الرئيسي باسمهم في هذا الملتقى، وتوليت شرح المطالب، وضرورة إرسال نسخة من مطالبنا إلى شيخ الأزهر.

وبعد أن أوقفت معارك القناة ضد الإنجليز، التي شارك فيها الأزهر بكتيبته التي ذهبت إلى الشرقية، واحتُفل بها في قاعة الشيخ محمد عبده بالدَّراسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة.. عدنا إلى القاهرة لنوجّه عناية أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيوية في كلياته ومعاهده؛ ليتبوأ مكانه في قيادة الأمة تحت لواء الإسلام كما كان من قبل.

وبعد تفكير وبحث وحوار بين مجموعة من الأزهريين الواعين والمخلصين لقضية الأزهر، وقضية الإسلام، منهم: أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد المطراوي، ومحمد الراوي، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد عبد العزيز خالد، ومحمد الدمرداش مراد، ومحمد الصفطاوي، وغيرهم ممن قضى نحبه وممن ينتظر؛ قررنا أن ننشئ لجنة سميناها "لجنة البعث الأزهري"، كان الأخ محمد الراوي عضوًا فيها، وقد كلفني الإخوة الزملاء مؤسسو اللجنة أن أبدأ بكتابة الرسالة الأولى من رسائلها المعرفة بها والمعبرة عن مهمتها.

ولم تكن أمامي إلا الاستجابة لهذه الرغبة وكتبت رسالة بعنوان: "رسالتكم يا أبناء الأزهر".

عمل الشيخ "الراوي" بعد تخرجه في قسم الدعوة في وزارة الأوقاف، ثم أصبح مفتشًا عامًّا في مراقبة الشؤون الدينية بعد مسابقة عامة لجميع المفتشين كان ترتيبه الأول على الناجحين، نقل بعدها إلى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة وعمل بالمكتب الفني بالمجمع، لإبعاده عن الخطابة والاتصال بالناس، وهو المكان نفسه الذي عينت فيه بعد تخرجي من كلية أصول الدين، فقد مُنعت من التعيين، حتى هيأ الله لي فرجًا من عنده، وعيننا الشيخ أحمد حسن الباقوري على مسؤوليته، في أعمال غير الخطابة والتدريس.

كانت وظيفتنا الرسمية: الإمامة والخطابة، ووظيفتنا الفعلية التي انتدبنا لها العمل بقسم النُّظَّار والأوقاف، ومقرُّه سطوح وزارة الأوقاف، وقد انتدبت أنا وأخي أحمد العسال للعمل في مراقبة الشؤون الدينية، وكلَّفني المراقب العام للشؤون الدينية الأستاذ البهي الخولي بالإشراف على "معهد الأئمة"، وكلَّف العسَّال بالإشراف على مكتبة إدارة الثقافة بمسجد عمر مكرم، ثم نقلت أنا والعسال إلى الأزهر في عهد شيخه وشيخنا الشيخ محمود شلتوت، وانضمما إلى إدارة البحوث.

وهيأ الله للشيخ الراوي أن أرسله الأزهر الشريف في بعثة مع ثلاثة من إخوانه العلماء إلى أفريقيا: نيجيريا وما حولها، وهم: حسن عيسى عبد الظاهر، وعبد التواب هيكل، وسليمان عطا.

سافر الراوي إلي نيجيريا في إعارة أخذت شكل الهجرة، ومن نيجيريا تعاقد مع جامعة الإمام ابن سعود في المملكة العربية السعودية، فعمل رئيس قسم القرآن الكريم، وظل في السعودية لمدة ٢٥ سنة، طوال فترة الشيخ عبد الحليم محمود والشيخ بيصار وحتي وفاة الشيخ جاد الحق، وبعدها قدم استقالته وعاد إلى مصر.

ومما أذكره للشيخ الراوي أنه جمعني وإياه الحج في سنة 1393هـ (1973م)، وقد جاءتني دعوة من لجنة التوعية بالحج، واستجبت للدعوة، وكان ممن دعوا إلى ما دعيت إليه الشيخ محمد الراوي، وقد قدم من الرياض، والشيخ محمد السيد الوكيل وقد قدم من المدينة، وبعض الإخوة من مشايخ السعودية وغيرهم. وكنا نقوم بإلقاء محاضرات لتوعية الحجيج، في خيم كبيرة، خصوصًا في أيام منى.

وقد زار الشيخ الراوي قطر عدة مرات، وقدمته مرارًا ليلقي كلمة التراويح في مسجد الشيوخ بالدوحة. وقد جمعني به وفد العلماء الذي سافر إلى أفغانستان لمقابلة علماء "طالبان"، لنقنعهم بترك تماثيل بوذا، التي صمموا على هدمها وإزالتها.

ونحن لم يكن همنا إلا الدفاع عن إخواننا، الذين عاداهم أهل الغرب، فأردنا ألا يستعدوا عليهم أهل الشرق، من أتباع بوذا، وهم بمئات الملايين، وأن يكون تصرفهم هذا ذريعة لتشويههم، وتشويه الإسلام والمسلمين، ولا سيما أن هذه الأصنام كانت موجودة عند الفتح الإسلامي وبعده بقرون، فلم يفكر أحد في إزالتها، أو تشويهها، ويسعنا ما وسعهم.

وكان الوفد يضم الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر وقتها، والشيخ محمد الراوي، والدكتور هيثم الخياط والكاتب الصحفي الكبير فهمي هويدي، وبعض علماء قطر. ثم جمعنا معًا مجمع البحوث الإسلامية الذي استقلت منه بعد الانقلاب العسكري بمصر، واستمر هو فيه.

أسال الله أن يرحم أخي محمدًا الراوي، وأن يتقبل جهده وجهاده، وصدعه بالحق، ودعوته إلى الخير.

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .

يوسف القرضاوي