د. يوسف القرضاوي

لقد بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي رواه أحمد والترمذي عن أبي كبشة الأنماري ـ أن للعلم أثره في سلوك صاحبه، وقد قسَّم الناس إلى أصناف أربعة بالنظر إلى موقعهم من العلم والمال.    

يقول الحديث: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل.. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء!.. وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل!.. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعلمت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء".

قسم الحديث الناس وحظوظهم في الدنيا إلى أربعة أصناف:

الصنف الأول ـ وهو أفضلهم ـ من أوتي علما ومالا، والمقصود بالعلم هنا: نور البصيرة، وحسن الإدراك، والمعرفة الراسخة، التي تضيء لصاحبها الطريق، وتبين له العواقب، فنفعه العلم بأن دله على أن المال وسيلة لا غاية، وأنه مستخلف فيه، وأن لله فيه حقا ثابتا، فاتقى فيه ربه، ووصل فيه رحمه، فأحسن بذلك إلى نفسه، وأحسن إلى الناس بعلمه وماله، فهو كما قال الحديث: "بأفضل المنازل".

والصنف الثاني: يلي الأول في المرتبة، وهو: من أوتي علما، ولم يؤت مالا، فهو لم ينفق ولم يتصدق ولم يصل الرحم بالفعل، وإنما فعل ذلك بالنية التي علم الله صدقها منه. والنية ليست مجرد خاطرة طائرة تمر بالبال، كشرارة لامعة ثم تنطفئ، بل هي خط نفسي عميق، يجعل صاحبه يعيش بهذا الأمر، حالما به، راغبا فيه، حريصا عليه، فالنية هي عقد القلب على العمل، لهذا استوى في الأجر هو صاحب العمل ـ كما صرح الحديث: "فهما في الأجر سواء"، وإنما سبب ذلك هو علمه ومعرفته، مما يدل على أهمية المعرفة في السلوك الأخلاقي، فلا فضيلة بلا معرفة، كما لا عبادة بلا علم.

والصنف الثالث: من أوتي مالا، ولم يؤت علما، أي لم يؤت العلم النافع الذي يورث الخشية، وينير البصائر، ويحرك العزائم لفعل الخير، وإن كان صاحبه يحمل أرقى الشهادات، فهذا أسوأ الناس منزلة، كما جاء في نص الحديث: "فهذا بأخبث المنازل"، وإنما نزل به إلى هذا الدرك جهله وحرمانه من العلم، فلم يعلم الله في ماله حقا، ولم يصل فيه رحمه، ولم يحسن به إلى غيره، ولم يتق فيه ربه، فكان ماله وغناه طريقا إلى هلاكه، فلو عدمه لكان خيرا له، ولكنه للأسف، أعطي ما يتزود به للجنة، فكان زاده إلى النار.

والصنف الرابع والأخير: من لم يؤت مالا ولا علما، ولكنه لجهله وعمى قلبه، عاش وفي نيته أن لو كان له مالا لأنفقه في الشهوات والمعاصي، مثل ذلك الغني الجاهل، فهو يليه في الرتبة، ويساويه في الوزر بنيته الجازمة: "فوزرهما سواء"، وهذا هو الأحمق حقا، فقد خسر الآخرة، ولم يكسب الدنيا، بخبث نيته، وسوء قصده، وأشقى الناس: من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.

قال ابن القيم معقبا على الحديث: "فقسم السعداء قسمين، وجعل العلم والعمل بموجبه سبب سعادتهما، وقسم الأشقياء قسمين، وجعل الجهل وما يترتب عليه سبب شقاوتهما، فعادت السعادة بجملتها إلى العلم وموجبه. والشقاوة بجملتها إلى الجهل وثمرته".

.................

* من كتاب "الحياة الربانية والعلم" لفضيلة الشيخ.