الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه (وبعد)

فما زال التاريخ شاهدا على أن أمة الإسلام لم تمت ولن تموت، وأن قضاياها الكبرى تعيش في وجدان كل مسلم، من المحيط إلى المحيط.

يذكرنا بذلك الشهيد المجاهد محمد الزواري: أحد قادة القسام، الذين أشرفوا على مشروع طائرات الأبابيل القسامية، والتي كان لها دورها الذي شهدته الأمة وأشاد به الأحرار في حرب العصف المأكول في غزة .

هو مجاهد تونسي، جعل من  فلسطين والقدس والأقصى قضيته الأولى، ونذر لها حياته، نيابة عن الأمة بأسرها.

لم يكن الشهيد محمد الزواري يبحث عن فخر أو رياء، ولم يكن يحدث المقربين منه عن عمله مع كتائب القسام، حتى تفاجأت أسرته  والمحيطون به بذلك. لقد كان يعمل في صمت، لا يبحث عن الأضواء والشهرة، وحسبه أن الله تعالى يعلم إخلاصه وصدقه.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم:

كلما اتضحت للإنسان أهدافه: أعد لها العدة، لتحقيقها، وليس من يعمل لنفسه كمن يعمل لغيره، وليس من يعمل لقريته كمن يعمل لأمته.

قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم  *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

 والناس يتفاوتون، وعلى قدر إيمان المرء تكون منزلته، هناك أناس آتاهم الله من الإيمان ما يستطيعون أن يواجهوا به المشكلات، ويتخطوا به العقبات، ويصنعوا به ما يشبه المستحيلات، ولذلك قالوا: فرد ذو همة، يحيي أمة، وقال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً). هناك أفراد كبار، الفرد منهم بأمة، الشاعر العربي يقول:

والناس ألف منهم كواحد   **   وواحد كالألف إن أمر عَنَى

والتفاوت ليس بقوة الأجسام، وإنما بالفضائل والأحلام. قال الشاعر:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمتـه   **   أتطلب الربح مما فيه خسران؟

أقبل على النفس واستقبل فضائلها   **  فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن قضية فلسطين كما فهمها الزواري هي قضية أمة الإسلام كلها، في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، وعلى أمة الإسلام جميعا واجب الجهاد لتحريرها متضامنين، وهم مسئولون أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام الأجيال عن ذلك.

فلسطين.. هي أرض النبوات، أرض القبلة الأولى، وثالث المسجدين المعظمين، أرض الإسراء والمعراج. وما يجري بحق أبنائها، ونسائها، وشيوخها، وأطفالها، ومقدساتها يحرك كل ساكن، وينطق كل أخرس، ولابد أن يقاومه كل حر وكل شريف.

إننا نخطئ خطأ كبيرا عندما نعتقد أن الصراع مع إسرائيل هو قضية الفلسطينيين وحدهم، وليس قضية العرب والمسلمين.

ونخطئ كذلك عندما نظن أن السلام هو الخيار الوحيد، ولا خيار غيره، ولا بديل له.

ونقع في مغالطة كبرى، ونحن نعتقد أن إسرائيل قوة لا تقهر، وشوكة لا تكسر، ويجب الاستسلام لها، والانحناء أمامها.

 كما نخطئ عندما نظن أن التنازلات قد تجلب لنا حلولا صادقة، فما زال العرب منذ بدؤوا تفاوضهم مع الصهاينة يتنازلون ثم يتنازلون، حتى كادوا يتنازلون عن كل شيء.

ونخطئ عندما نرد على الأفعال بالأقوال، ونرد على السِّنان باللسان ، ونرد على السيف بالقلم، ونرد على العدوان العسكري بالاستنكار والاحتجاج والبيانات. وإنما يُرد على الأفعال بالأفعال. والشاعر العربي يقول:

السَّيْفُ أصْدَقُ أنْباءً مِنَ الكُتُبِ  **  فِي حدّهِ الحَدُّ بَينَ الجدّ وَاللعِبِ

والأمة المقاوِمة تحتاج إلى جمع الصفوف، وتوحيد الكلمة، ونبذ الفرقة، وعدم إثارة أي نعرة تفرّق جمعها.

فَدتْ نفسي وما ملكتْ يميني  **  فَوَارسَ صدَّقوا فيهم ظُنونِي

فكل مسلم صادق عليه واجب في تحرير فلسطين، هذا هو واجب الأمة كلها، بعربها وعجمها، وأبيضها وأسودها. وعلى أمتنا أن تقف صفا واحدا، وهي تقاوم أعداءها، كما قال تعالى:{إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.

نحن مع فلسطين.. مع هذا الشعب الذي  سينصره الله رغم كل الصعاب، وأنا مؤمن بهذا الانتصار، وأن الله سيرينا ذلك قريبا بقدرته، فالغد لنا، والنصر لنا بإذن الله تعالى، وثقوا أنه تعالى لن يتخلى عنكم،  {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.

 

يوسف القرضاوي

رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين