هذه صفحة من مذكرات فضيلة العلامة القرضاوي حول أهم المرات التي قابل فيها الأستاذ الإمام حسن البنا:

من أهم المرات التي لقيت فيها الأستاذ المرشد حسن البنا: مرة زيارته للمحلة الكبرى، قادما من زفتى.

وقد أقيم له سرادق كبير، دعي إليه جم غفير من المحلة ومما حولها من البلدان. وقد تحدث بعض الإخوة، ثم كان حديث الأستاذ في الختام.

وفي أثناء حديث الأستاذ حدث هرج ومرج، استطاع الأستاذ معه أن يسيطر على الموقف بسرعة، ويمتلك قلوب الحاضرين.

ذلك أن جماعة من الحزبيين بالمحلة أرادوا أن يفسدوا حفل الإخوان، بافتعال معركة مع الإخوان، وبمجرد حدوث ضجة سينفرط العقد، ويختل النظام، ويهيج الناس، فينفض الحفل لا محالة.

هكذا خطط المخططون، وكاد الكائدون، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فقد تجمعوا يحملون عصيهم وهراواتهم، واقتربوا من الحفل وهم يهتفون هتافات معادية. وكانت الخطة أن يصلوا إلى السرادق، وهم يرددون هتافاتهم متحدِّين للإخوان، فيرد عليهم الإخوان بهتافات ضد هتافاتهم ويصطدم الفريقان، وبمجرد أن يحدث الاحتكاك، سيحدث الاختلال.

وقد كادت الخطة تنجح لولا موقف الأستاذ البنا، الذي أحس بأن شيئا بالخارج يحدث، فقال للحاضرين: أيها الإخوة، الزموا أماكنكم، فوالله ما نريد بأحد سوءا، ولكن نريد لهذه الأمة أن تنهض من كبوتها، وأن تتوحد من فرقتها، وأن تعتصم بحبل الله جميعا ولا تتفرق. وارتفع صوت الأستاذ، وهو يقول بلهجة ثائرة لم أره ثار مثلها من قبل: إننا أقوياء بالله فلن نضعف أبدا، أعزاء بالله فلن نذل أبدا، أغنياء بالله فلن نفتقر أبدا. إننا نريد أن نؤدب الأمة بأدب جديد هو أدب الإسلام، وأن نربيها على خلق الإسلام، وأن نقودها بمنهج الإسلام، لتسير خلف أعظم قائد، وأشرف قائد، محمد عليه الصلاة والسلام.

هذه الكلمات الثائرة، التي انطلقت من فم حسن البنا كأنها القنابل في دويها، كانت بردا وسلاما على سامعيها، شدتهم إلى الرجل شدا، وأسرتهم أسرا، وبقي كل واحد في موضعه لم يتحرك يمنة ولا يسرة.

في هذه الحالة كان جوالة الإخوان قد أنهوا تلك الحركة المشاغبة، وفرّقوا جمعهم، وأمسكوا ببعضهم، وولى الآخرون هاربين.

وهنا عاد البنا يقول: كنا نتحدث عن كذا وكذا، كأن شيئا لم يكن، وانتهى الحفل على خير حال.

وذهب الأستاذ بعد ذلك إلى دار الإخوان ليلتقي بنواب الشعب، ثم بالعمال، ثم بالطلاب، وظل في اجتماعات إلى أن بقي على الفجر حوالي ساعة، فقال: أستأذنكم لأستريح هذه الساعة، ودخل حجرة ليستريح، وبعد ساعة، وجدناه خارجا، فلا أدري هل نام هذه الساعة أو لم ينم؟ الذين عايشوه قالوا: إنه إذا أراد أن ينام نام، وكان يقول: إذا أحب الله عبدا سخر له النوم!

وجاء الفجر فصلى بنا، وقرأ سورة "ق" في الركعتين، وبعد ذلك أخلدنا نحن إلى النوم، ولا ندري ماذا فعل الشيخ بعد ذلك.

وعندما استيقظنا في الضحى، علمنا أن الشيخ مدعو إلى قرية "محلة أبو علي" بجوار المحلة، لتناول الغداء فيها، ثم إلقاء محاضرة في أحد مساجدها.

ومن هنا سافرت إلى محلة أبو علي لألتقي بأصدقائي فيها، ولننتظر الشيخ هناك، وقد صلينا العصر في المسجد العباسي مع الأستاذ المرشد، وألقى محاضرة بعد العصر، نوّه في مقدمتها بعلماء البلدة ودعاتها، مثل الشيخ أحمد القط.

وبعد انتهاء المحاضرة ودّع الشيخ إخوانه ومضيفيه في محلة أبو علي، ليولي شطره نحو مدينة (بلقاس) وهي آخر محطة في هذه الرحلة الدعوية، ليعود من جديد إلى القاهرة، ليستعد لرحلة أخرى، فهكذا هو أبدا، حل وارتحال، وحركة وانتقال، وقد سمعته مرة يقول: نحن كالعرب أصحاب الخيام:

لعذيب يوما، ويوما بالخليصاء   يوما بحزوى، ويوما بالعقيق

...................

* من كتاب "ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة" الجزء الأول.