الإمام محمد الغزالي *

فوجئت عندما عرفت أن الشيخ "يوسف القرضاوي" بلغ السبعين - [٩٠ الآن] - ما كنت أحسب أني أكبره بتسع سنين فقط ؟!

لقد التقينا سنة ١٩٤٩ للميلاد في طور سيناء مع الألوف من المؤمنين الأحرار ، كان طالبا في الأزهر ، وكنت من علماء المساجد ، ولكن جمعتنا راية الكفاح لنصرة الإسلام ، وإحياء شريعته المعطلة ، وعقيدته المضطهدة . وكان - وهو طالب - يقود إخوانه ببأس ، ويخطبهم بوعي ، ويؤمَّهم في الصلوات ، وفي ساحة الكفاح على السواء.

ولم يخطر بالبال أن أعمارنا ستطول، وأن الميدان سيتشعب، وأن الشيب سيدركنا، ونحن تحت الراية نفسها، ما أسرع مرّ الزمن! أو كما قال الشيخ "الدجوي" :

نُجُبُ الأيام بنا تثب .. ما أسرح ما تصلُ النُّجُبُ

وفي سبيل نصرة الإسلام ألَّف الشيخ "يوسف القرضاوي" فوق السبعين كتابا، ستبقى إن شاء الله مصابيح في ميدان الدعوة الإسلامية، ونورا بين يديه يوم اللقاء العظيم.

وأريد أن ألفت الأنظار إلى فروق بين أصناف الرجال. قد يكون المرء ماهرا في أحد أصناف العلوم، ويؤلف فيه كتابا جيدا، وذلك جهده وحسب، ولا نغمط أحدا حقه "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا"، ولكن هناك من رزقهم الله مواهب متعددة، وأمكنهم السبق في مجالات كثيرة، وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء .

وتاريخ الإسلام العلمي مليء بالرجال الذين برزوا في مجموعات شتى من العلوم، ووهب الله لهم بصائر جعلتهم حججا فيما كتبوا.. وأنا أنظر إلى الرجل الذي سماني أبي باسمه "أبي حامد الغزالي"، والذي لم يعمر في الدنيا إلا فوق الخمسين بقليل! إني أرمقه بدهشة، لقد أحب الله إلى حد الهيام، وخدم الثقافة الإسلامية فوق الطاقة، وترك مواريث من المعرفة جديرة بالدرس العميق..

درس الفلسفة فرأيته يشرف من فوق على عقل "أرسطو" ويبصر أخطاءه، ويعمل قلمه الأحمر في التخطئة والتصويب، وكذلك فعل مع غيره من الفلاسفة عندما ألف كتابه "تهافت الفلاسفة"!! ودرس الفقه وألف فيه، ودرس أصول الفقه وألف كتابه "المستصفى".. ودرس الملل والنحل، ودرس التصوف والأخلاق، ودرس المنطق والجدل، وبصره عميق بالكتاب والسنة، وقلمه منطلق سائغ سهل حلو الثمرات..

إن العلماء الموسوعيين أمثال "الغزالي" ظهروا في العالم الإسلامي، وخدموا تراث محمد صلى الله عليه وسلم أجلَّ الخدمات، وما أبالي باختلاف الأمزجة ووجهات النظر، فابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي، ومن سبق هؤلاء جميعا من الأئمة والفحول، هم رجال عباقرة يستحيل غمطهم، ولا يمكن تأخيرهم بعدما قدمهم إنتاجهم. ولست من متتبعي الهنات، وصيادي الأخطاء، فما تخلو سيرة من عثرة، ولا يوجد إلا إنسان واحد تفرد بالعصمة، وانقطعت الأعناق دون بلوغ كمالاته، هو محمد بن عبد الله.. صلوات الله عليه.

وأخي "يوسف القرضاوي" كنت أعده زميلا، بيد أنه سبق سبقا بعيدا، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو في طريقه -أطال الله عمره- يكتب ويخطب، ويخاصم ويسالم، ويتحرى خدمة الحق ونصرة الله ورسوله، وقد بدأت المشابه تتضح بينه وبين شيوخ الإسلام الكبار، فهو يبحث في الفقه والأصول، والسنة رواية ودراية، والعقيدة والأخلاق، والسيرة والفلسفة، وما يسميه شيوخنا: المعقول والمنقول.. وهو -بلسانه وقلمه- كلما سمع بمعركة للإسلام طار إليها وبرز فيها، ولكن ميدان الجهاد اتسعت جبهاته، وهو بحاجة إلى عصبة أولي القوة.. والمهم هنا الكيف قبل الكم.. ولأشرح ما أعني:

إن مواريثنا العلمية في القرون الأخيرة شانها نقص خطير، وشابتها أغلاط غريبة، وكثرت فيها الخلافات اللفظية والنظريات الموضعية، فأمست ثقافة تفرق ولا تجمع، وتنيم ولا توقظ، حتى ظهرت حركة "جمال الدين الأفغاني" و "محمد عبده" و"رشيد رضا" و"حسن البنا"؛ فبدا فجر جديد، نشطت العلوم والآداب، واستيقظ العقل الإسلامي من غفوته الطويلة، ولكن أعداء الإسلام عاجلوه بضربات موجعة انتهت بقتل "حسن البنا" في شوارع القاهرة، وتشتيت العاملين في الحقل الإسلامي، وتمزيقهم شذر مذر.

ونحن لا ندري أعماق السياسات التي تسيِّر العالم، ولكنا موقنون بأن محور نشاطها ضرب الإسلام في صميمه، وتذويب كيانه العلمي والروحي في دوامة أفكار جديدة تحمل شتى العناوين؛ ولذلك جاء رد الفعل نشاطا علميا مضادا، غايته كسر هذه الغارة، واستبقاء العقل الإسلامي عميق النظرة، صائب الفكرة، قادرا على تبصرة الأمة بما لديها من عناصر تكفل لها البقاء والغلبة..

وحمل "يوسف القرضاوي" عبئه الثقيل؛ فألف في فقه العبادات والمعاملات ما ناسب العصر الحاضر، وقاوم الزحف القادم، واتصلت مؤلفاته في آفاق المعرفة الإسلامية، فأضاف الجديد الذي لابد منه، واهتم بالبناء لا الهدم، وما أحسب منصفا من السلف أوالخلف إلا رضى النفس بما كتب، مستبشرا بغد أنضر للفكر الإسلامي الذي حمل لواءه.. ومع ذلك فالكفاح طويل..

وألمح في الأفق أخطارا على ديننا وأمتنا، فإن الأعداء التقليديين لا تنتهي أطماعهم، والأمر مخوف حقا، وفوق الأشد من سماسرة الاستعمار الذين ملكوا أزمة التعليم والإعلام، وتاحت أمامهم فرص كثيرة لإشاعة الإلحاد والانحراف، والإسلام بحاجة إلى دعاة رهبان بالليل فرسان بالنهار، لهم عقول ثاقبة وحوار ذكي، والأمل فيمن يقودهم الشيخ "يوسف القرضاوي" أن ينهضوا بهذا العبء.

----------

* هذه الكلمة كتبها الإمام الغزالي قبل رحيله في ٩ مارس ١٩٩٦م، ونشرت في كتاب "يوسف القرضاوي.. كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه.. مهداة إليه بمناسبة بلوغه السبعين" طبع دار السلام بالقاهرة.. وتنشر لأول مرة على الإنترنت بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي في ٩ سبتمبر الجاري تسعين عاما.. أطال الله عمره ورحم شيخه الراحل.