د. يوسف القرضاوي

 الرحمة:

من القِيَم المهمة في هذا المجال (الأخلاق التجارة): "الرحمة" التي جعلها الله عنوانا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين خاطبه فقال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"(1) ، ووصف الرسول نفسه، فقال: "إنما أنا رحمة مهداة"(2) .

وجعلها شرطا لنَيْل رحمة الله، فقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء" (3)، وهنا يوجب الإسلام الرحمة بالخَلْق، فلا يجعل التاجر أكبر همه، وغاية سعيه: الحصول على أكبر قدر من الربح لخزانته، أو رصيده في المصرف، وإن كان ذلك على حساب جهود الناس، وبخاصة الضعفاء منهم الذين لا يملكون مزاحمة أهل القوة واليسار بالمناكب.

إن الإسلام يريد أن يقيم ـ في ظل القِيَم ـ سوقا إنسانية، يرحم الكبير فيها الصغير، ويأخذ القوي بيد الضعيف، ويتعلم الجاهل فيها من العالم، وينكر الناس فيها على الباغي والظالم، أما السوق في إطار الحضارة المادية والفلسفة الرأسمالية، فليست إلا غابة مصغَّرة أو مطوَّرة، يفترس القوي فيها الضعيف، ويدوس الكبير فيها الصغير، البقاء فيها للأقوى والأقتل، لا للأصلح والأمثل.

تحريم الاحتكار:

ومن هنا حرَّم الإسلام "الاحتكار" وهو أحد عنصرين تقوم عليهما الرأسمالية الجشعة المتسلطة، والعنصر الآخر هو: الربا. ويُقصد بالاحتكار: حبس السلع عن التداول في السوق، حتى تغلو أثمانها، ويزداد الإثم هنا إذا كان الاحتكار جماعيا تواطأ عليه تجار هذا النوع من البضائع، ومثله أن يحتكر تاجر واحد الصنف كله لحسابه، فيتحكم في السوق كما يشاء.

قال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطئ "(4) ، وفي بعض ألفاظه: "لا يحتكر إلا خاطئ" أي آثم، وهي الكلمة التي دمغ القرآن بها الطغاة والجبارين، فرعون وهامان وأعوانهما فقال: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) (5)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاما أربعين يوما، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه"(6) ، وقال علي رضي الله عنه: "من احتكر طعاما أربعين يوما قسا قلبه"، وسر ذلك: أنه ينظر إلى مصلحة نفسه، ولا يبالي بضرر المجموع، فكلما حدث رخص ساءه وآلمه، وكلما سمع بغلاء سرَّه وأبهجه؛ فلا غرو أن تتسرب الرحمة من قلبه، وأن تغزوه الأنانية والقسوة.

والقسوة آفة تنزل بالإنسان من أُفق الإنسانية إلى حضيض السبعية أو الوحشية، وقد ذمَّ الله بني إسرائيل قديما بقوله: (ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) (7) ، واعتبرها القرآن عقوبة إلهية يبتلى بها مَنْ عصى الله وانحرف عن نهجه، كما قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) (8) .

 والاحتكار مبعثه الأنانية والقسوة على خَلْق الله، وأن يبني قصوره من جماجم البشر، وأن يمص دماءهم لتجري في عروقه أو في رصيده ألوفا وملايين!

ما الذي يحرم احتكار السلع؟

وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يَحْرم احتكاره من السلع ما هو؟ والوقت الذي يَحْرم فيه الاحتكار.

فمن الفقهاء مَنْ قصر الاحتكار على "الأقوات" لا يتجاوزها. قال الغزالي: "أما ما ليس بقوت ولا هو مُعِين على القوت، كالأدوية والعقاقير والزعفران وأمثاله، فلا يتعدى النهى إليه، وإن كان مطعوما. وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسدًا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المرادفة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء مَنْ طرَّد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه"(9) .

ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون "القوت" محصورا في الطعام الجاف مثل: الخبز والأرز بلا سمن ودون إدام، حتى الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت. وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاء صحيحا للإنسان، إذ لا بد أن تتوافر في الغذاء الصحي جملة عناصر ضرورية، منها: البروتينات والدهنيات والفيتامينات، وإلا أصبح الإنسان عُرضة لأمراض سوء التغذية.

كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريًا للناس، ولم تكن كذلك في الزمن الماضي، وكذلك الملبوسات ونحوها، فالإنسان كما يحتاج إلى الغذاء، يحتاج إلى الكساء، وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم، وكم من أمر تحسيني أو كمالي أصبح حاجيا، وكم من حاجي غدا ضروريا.

والأرجح ـ في رأيي ـ تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعاما كان أو دواء أو لباسا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك، والدليل على ذلك عموم الحديث: "لا يحتكر إلا خاطئ"، "من احتكر فهو خاطئ"، والنص على منع احتكار الطعام، والوعيد عليه خاصة، لا ينفي ذلك العموم.

وعلة النهي أيضا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة، وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصا في عصرنا، فالإنسان في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوى، ويتنقل، ويتواصل مع غيره بشتَّى الوسائل.

ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف: "كل ما أضرَّ بالناس حبسه فهو احتكار"، وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثما، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.

الوقت الذي يَحْرم فيه الاحتكار:

وكذلك الخلاف في الوقت الذي يَحْرم فيه الاحتكار، فمن العلماء مَنْ طرَّد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة، آخذا بعموم النهي، وعليه عمل الورعين من السلف.

قال الغزالي: "ويحتمل أن يخصص بوقت قِلَّة الطعام، وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضرر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغنى الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطا، فليس في هذا إضرار وإذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يُقضى بتحريمه، ويعوّل في نفي التحريم وإثباته على الضرار، فإنه مفهوم قطعا من تخصيص الطعام، وإذا لم يكن ضرار، فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار، وهو ارتفاع الأسعار، وانتظار مبادئ الضرار محذور كانتظار عَيْن الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عَيْن الضرار أيضا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم.

وعن بعض السلف: أنه كان بواسط فجهز سفينة حِنْطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بِعْ هذا الطعام يوم يدخل البصرة، لا تؤخره إلى الغد، فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك خالفت، وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية! فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافا لا عليّ ولا لي"(10) .

....................

*من كتاب "القيم والأخلاق في اقتصاد السوق" لفضيلة الشيخ.

(1) الأنبياء: 107 .

(2) رواه الحاكم في المستدرك كتاب الإيمان (1/ 91) عن أبي هريرة، وقال: حديث صحيح على شرطهما، والتفرد من الثقات مقبول. ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط (3/ 223)، والبيهقي في الشعب (2/ 164)، وقال الألباني في مشكاة المصابيح: صحيح (5800) .

(3) رواه أحمد في المسند (6494) عن عبد الله بن عمرو، وقال محققوه: صحيح لغيره. وأبو داود (4941)، والترمذي في البر والصلة (1925)، وقال: حسن صحيح.

(4) رواه مسلم في المساقاة (1605) عن معمر، وأبو داود في الإجارة (3447)، والترمذي في البيوع (1267)، وابن ماجه في التجارات (2154) .

(5) القصص: 8.

(6) رواه أحمد في المسند (4880) عن ابن عمر، وصححه أحمد شاكر وأطال النفس في تخريجه الحديث، وجود العراقي إسناده في تخريج الإحياء (2/ 72)، وذكر ابن حجر في "القول المسدد في الذب عن المسند" أن له شواهد تدل على صحته، وأوردناها هناك، ولهذا تعقب السيوطي ابن الجوزي حين أورد الحديث في "موضوعاته" بما يدل على قوته بل صحته "اللآلئ المصنوعة: 2/ 147، 148".

(7) البقرة: 74.

(8) المائدة: 13.

(9) الإحياء: 2/ 73، طبع دار المعرفة، بيروت.

(10) الإحياء: 2/ 73.