د. يوسف القرضاوي
بداية تفسير السورة:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (المزمل:1-9) .
أنواع النداءات الإلهيَّة في القرآن:
النداءات الإلهيَّة في القرآن أنواع، فمنها:النداء للناس عامة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} (البقرة:21) .
ومثله النداء لبني آدم، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس:60-61) .
ومثله النداء لعباد الله، كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر:53) .
وأخصُّ منها النداء إلى أهل الكتاب؛ مثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران:64) . والمراد بأهل الكتاب: أهل التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى على اختلاف مذاهبهم وتأويلاتهم.
وقد ينادى الكفارَ أو المشركين، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:1-2) ، وقد يكون النداء إلى الإنسان عامَّة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار:6). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (الانشقاق:6) .
وقد يكون النداء إلى جماعة المؤمنين، وهذا لم يجئ إلا في القرآن المدني: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) ، وقد تكرر هذا النداء 89 مرة. وقد يتكرَّر النداء الإلهي إلى الأشخاص؛ مثل النداء إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من أنبياء الله ورسله.
النداء بـ "يا أيها المزمل" :
ومن ذلك: النداء إلى الرسول بأوصافه التي وُصِف بها مثل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} و{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فهو يناديه وهو في حالة معيَّنة من اللباس والتَّغطِّي، في أوائل ما جاءه الوحي، وقد جاء إلى أهله في بيته يقول لهم: دثِّروني، أو زمِّلوني. فكأنَّ الله تعالى يُلاطفه ويُؤانسه، حينما يناديه بهذا الوصف، وفي هذه الحالة، فإذا نُودِيَ المنادى بوصف هيئته من لِبْسة أو جِلْسة أو ضِجْعة، فإن المقصود في الغالب: التلطف به، والتحبُّب إليه، ولهيئته. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، وقد وجده في المسجد، وقد عَلِق التراب بجنبه: "قم أبا تراب"! ، وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق: "قم يا نومان"!
وفي القرآن خطاب للنبي الكريم بصيغ شتى منها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (المائدة:67) ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب:1) . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم:1)... إلخ. و(المزمِّل): اسم فاعل من تزمَّل يتزَّمَّل، فهو مُزَّمِّل، إذا تلفَّف بثوبه كالمَقْرور، أو مريد النوم، وهو مثل التدثُّر في مآل المعنى، وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق،والمزمِّل أصلها: المتزمِّل، أدغمت التاء في (الزاء) بعد قلبها زايًا لتقاربهما.
ماذا ينتظر الرسولَ والمؤمنين معه؟
ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، تنتظرهم رحلة طويلة وشاقة ومضنية من مواجهة المجتمع الوثني، الذي استمر مئاتٍوربما آلافًا من السنين، مستمرئًا ضلال العقيدة، وانحراف السيرة، وفساد الفكر، وقلة الخير، وانعدام المحبَّة الحقيقية بين الناس، فهم أشبه بالغابة الكبيرة، التي يأكل فيها الكبيرُ الصغيرَ، ويلتهم الغنيُّ الفقير، ويجور القوي على الضعيف.
أفسدت الجاهلية العمياء عقولهم، وأماتت ضمائرهم، وجارت على أخلاقهم، فأصبح كلُّ امرئ منهم، كأنَّه يعيش وحده لا يفكر في غيره، وإذا فكر في غيره، فَلِكَي يكون له خادمًا أو على الأقل عونًا، لا يعرفون معنى الأخوة الحقَّة، ولا بر الوالدين بحقٍّ، ولا صلة الأرحام التي يحبُّها الله، ولا العطف على الأيتام والمساكين وابن السبيل وما ملكت الأيمان.
غلبت شهوات الدنيا على الأفراد، فأصبحوا يأكلون الحرام، ويستحِلُّون الحرام، يزنون أحيانًا مسافحين، وأحيانًا متَّخذي أخدان، أومتَّخذات أخدان، ويأكلون الربا، ويأكلون أموال اليتامى ظلمًا، ويتحكَّم الأقوياء في الضعفاء، كأن الغلبة إنما هي للأقوياء بأبنائهم، أو بأسلحتهم، أو بأموالهم، أو بعصبياتهم، وأحيانًا لا يبالون بعصبياتهم إذا غلبتهم أهواؤهم.
وأحيانا على بكر أخينا
إذا لم نجد إلا أخانا
يقول زهير بن أبي سُلمى في معلقته:
ومن لم يذُدْ عن حوضه بسلاحهِ يهدَّمْومن لا يظلمِ الناسَ يُظلمِ
أي: لكي يبتعد الناس عن ظلمك والاعتداء عليك، لا بد أن تبدأ بظلمهم، فإن لم تظلمهم فقد عرضت نفسك للظلم لا محالة.
وقال عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة:
لنا الدنيا ومن أمسى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
بُـــغـــاة ظــالـمين ومــــا ظُلِمْنا ولــكــنَّا سـنـبــدأ ظالمـينا
الفرد ضائع في هذا المجتمع عقليًّا ونفسيًّا وثقافيًّا، والأسرة تحتاج إلى التعاضد والتراحم، والمجتمع يحتاج إلى أن يتكاتف ويتساند، ويكون بعضه أولياء بعض، يعطف غنيُّه على فقيره، ويأخذ قويُّه بيد ضعيفه، يسأل أحدهم نفسه قبل أن يأخذ المال: من أين جاءني؟ وإذا اكتسبه: كيف أُنفقه؟ لم يكن المجتمع الجاهلي يعرف هذا الفقه، ولا هذه الثقافة، ولا هذه الروح، إنما هي الأنانية المحضة، التي جعلت أبناءه ذئابًا يفترس بعضُها بعضًا.
إنه في حاجة إلى الدعوة التي تبني هذا المجتمع بناء جديدًا، تغيِّره ابتداء من لَبِنَاته، ثم من ارتباطه بعضه ببعض، ثم بارتباط جماعاته، حتى تتكوَّن منهم أمة ربانيَّة إنسانيَّة أخلاقيَّة، ثم تقوم عليهم دولة تؤدِّي الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمت بين الناس حكمت بالعدل، تقيم الصلاة، وتؤْتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، كل ذلك بعد الإيمان بالله تعالى، الذي هو أساس البناء كله.
تأمُّل في الآيات الأولى من سورة "المُزمِّل" :
كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، التي أنزلها الله تعالى على رسله، وهو يتضمَّن الوحي الإلهي الذي يخاطب الله تعالى به رسوله عن طريق الروح الأمين جبريل، الذي يحمل الوحي من الله تعالى لرسله، وخصوصًا القرآن، الذي أنزله الله كله على خاتم رسله محمد، بطريق الوحي الجلي؛ نزول الملك به سورة سورة وآية آية.
وكان القرآن مصدر التعليم الربَّاني الأول، ومصدرَ التَّشريع والتوجيه، الآمر الناهي، الهادي إلى صراط الله المستقيم، المُوضِّح لأحكامه وأهدافه وهداه. (يتبع)