حرصاً من جريدة العرب على استكمال الفائدة ومواصلة ما بدأته العام الماضي مع تفسير جزء تبارك للشيخ يوسف القرضاوي فإنها تواصل في أيام رمضان هذا العام نشر ما تبقى من تفسير الشيخ لجزء تبارك، علماَ أن الشيخ قال: صاحبت القرآن أكثر من سبعين عاماً، وكان محور دروسي ومحاضراتي وكتبي وخطبي وفتاواي التي نشرتُ بعضاً منها في أربعة مجلدات كبيرة، ولقد ألَّفْت في مختلف فنون الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي، في العقيدة والتفسير والحديث والتصوف والتاريخ والدراسات الإسلامية المعاصرة، وهي كثيرة..

وقد قاربت مؤلفاتي على مائتي كتاب بين الكبير والمتوسط والصغير، وتعددت موضوعاتها بين الفقه والفكر، وما يخاطب العقل، وما يسمو بالروح، وألفت في موضوعات القرآن مثل: (الصبر في القرآن)، و(العقل والعلم في القرآن) وفي علومه (كيف نتعامل مع القرآن)، غير أن الحنين أن أنضم إلى قافلة مفسري القرآن، وأن أؤلف في تفسير القرآن ظل يراودني الفَينة بعد الفينة، فلقد أممت الناس ما يقارب (نصف قرن) في قطر في صلاة التراويح، وألقي درساً بعد الركعات الأربع الأولى عن بعض الآيات التي قرأتها، وكنت قد أُعِرْت إلى الجزائر عاماً، وهناك كان لي درس أسبوعي فسّرت فيه سورة يوسف كاملة، لكن للأسف لم ينشط أحد لجمعِها، وبعد عودتي إلى قطر اقترح علي بعض الإخوة أن يكون لي درس أسبوعي في مسجد عمر بن الخطاب، وأن أبدأ بسورة الرعد، ونشطت بعد ذلك لتفسير إبراهيم والحجر، وهي جميعا مطبوعة.

نص السورة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} .

مكية السورة:

السورة مكيَّة عند المفسِّرين وعلماء القرآن، إلا الآية الأخيرة منها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ...} (المزمل:20) ، فقد اختُلف فيها، فقيل: إنها مدنيَّة، فهي في طبيعتها مخالفة لسائر آيات السورة، وقد ذُكر فيها القتال، وهو لم يشرع إلا في المدينة، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (المزمل:20) إن لم يكن ذلك من باب الإنباء بأمر مغيَّب يستقبله الرسول والمؤمنون على وجه المعجزة، وقد دلَّ على ذلك بقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ...} . وينبغي على المفسِّر التأمُّل في استثناء بعض الآيات من عامَّة السورة، لينسبها إلى المكيَّة والمدنيَّة، فكثيراً ما يدخل فيها الظنون، بل الأوهام، {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (يونس:36) .

ترتيب السورة في التنزل:

ولقد كثُرت أقاويل المفسِّرين وعلماء القرآن حول هذه السورة، والسور المنزَّلة في أوائل تنزيل القرآن، فمن المتفق عليه كما صحَّت به الأحاديث: أن أوائل سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1-5). هذه الآيات الخمس هي الفوج الأول الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لقَّنه إيَّاها جبريل، حامل الوحي إلى الرسول ومَن قبله مِن الرُّسل الكرام، وهو ما ذكره الإمام البخاري في أوائل صحيحة من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

ثم اختلفوا في الدفعة أو الفوج التالي من الآيات، ويجب أن نكون متنبِّهين إلى أن السُّور لم تكن تنزل كاملة مرة واحدة، بل كانت تنزل الآيات الأولى في السورة غالباً، ثم تنزل الآيات الأخرى بعد ذلك، وقد يتأخَّر نزولها، وقد تنزل على عدَّة مرات.

وبعض المفسِّرين ورجال القرآن، إذا رأوا كلمة الجهاد، أو المنافقين، أو الفتنة، أو الهجرة، في سورة غلب على ظنِّهم: أن السورة مدنيَّة، وهذا ليس دائماً، فكم ذُكِرَت هذه الكلمات في السورة المكيَّة، وهو ليس بغريب في القرآن، فسياق الآيات أو السورة يقتضيها.

ومنْ تدبَّر القرآن تَدَبُّراً كليّا، وربطَ بعضَه ببعض، أوَّله بآخره، وآخرَه بأوله، وتأمَّل في آياته البيِّنات، على ما يحبُّ الله تعالى، وعلى ما دَعَا إليه رسوله، وعلى ما مضى عليه الكرام من أصحابه، لن يجد غرابة في أن توجد هذه الكلمات في القرآن المكي؛ لأن القرآن المكي يُعِدُّ للقرآن المدني، ويُهيِّئ لاستقباله وما فيه من أحكام، وأوامر ونواهٍ، وحكم وآداب، تتكامل كلها في نهج واحد، ونظام واحد، مترابط أوفق الترابط، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82) .

في سورة العنكبوت تقرأ فيها عن الجهاد في أوائلها: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]. وفي آخرها ختمت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69) . والجهاد هنا هو تحمُّل المشقة والابتلاء والعذاب في سبيل الله.

وفي سورة النحل تقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110].وقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل:41) .

ولا عجب أن يذكر القرآن الهجرة في السُّور المكيَّة، ومنها الهجرة إلى الحبشة، تهيئة لما بعدها. وذُكِر النفاق في سورة المُدَّثر، وفي سورة العنكبوت، وهما مكيَّتان. وذُكِرت الفتنة في سورة البروج وفي سورة الحج، في الجزء الأول المكي؛ فلا ينبغي أن يكون همُّنا كلمةً من تلك الكلمات لننزع عن السورة مكيتها وننسبها إلى المَدَنِيَّة.

والذي ينشرح له الصدر، ويطمئن إليه العقل، وتدل عليه الدراسات الجادة في علوم القرآن: أن آيات العلق أول ما بدئ به النزول، ثم جاءت آيات المدثر، وفيها العمل والسلوك، والأمر بالتبليغ {قُمْ فَأَنْذِرْ} (المدثر:2) ، الذي يدل على الرسالة بعد النبوة، ثم جاءت سورة المزمِّل، وفيها: الإعداد للمرحلة القادمة، وما تتطلبه من جهود وجهاد وإعداد، وصبر ومثابرة على مقاومة المشركين.

ثم جاء مطلع سورة القلم، وفيه رَدّ على المتطاولين، الذين لا يحسنون قولاً ولا عملاً. (يتبع)

.................

*عن صحيفة العرب القطرية 1 رمضان 1437هـ / 6-6-2016م.