د. خالد فهمي
أولا- الوعى بأنواع المعجمات، والفروق التى بينها :
يظهر لدارس كتابات القرضاوى وعيه الظاهر بأنواع المعجمات، وتوزيعها على:
أ - معجمات لغوية عامة
ب - معجمات لغوية مختصة بغريب القرآن و السنة.
ج - معجمات اصطلاحية.
د - دوائر معارف (أو موسوعات)
وقراءة كتابات العلامة الكريم تدلنا على معرفته بمعجمات اللغة العربية المهمة من مثل أساس البلاغة : فقه الوسطية ص 37 وتاج العروس شرح القاموس ، فقه الوسطية ص 35 ؛ والوطن والمواطنة ص 13 وقد استعمل القرضاوى الطبعة المحققة من هذا المعجم الأخير التى أصدرتها دولة الكويت ولا ينقضى العجب عندما يرجع القرضاوى إلى أساس البلاغة لنقل بعض ما يتعلق ببعض الألفاظ من معان مجازية ، ودارسوا المعجمية يعلمون أن العناية بالمعانى المجازية من الوظائف الجديدة التى استحدثها الزمخشرى بهذا المعجم.
وقد رجع القرضاوى فى توثيق معانى الألفاظ القرآنية والحديثية إلى المعجمات الخاصة بغريب القرآن وبغريب الحديث من مثل:
- معجم ألفاظ القرآن الكريم ، المجمع اللغوى بالقاهرة ، كما فى : فقه الوسطية ص 33 ، و المفردات فى غريب القرآن ، للراغب الأصفهانى ، كما فى : فقه الوسطية ص 34
- الفائق فى غريب الحديث ، للزمخشرى ، كما : فى فقه الزكاة1/38 والنهاية فى غريب الحديث والأثر ، لابن الأثير ، كما فى : فقه الوسطية ص35 .
وكان القرضاوى دقيقا لدرجة ظاهرة عندما كان يوثق دلالات المصطلحات من معجمات المصطلحات ، ومصادر الفن العلمى الذى يعالجه ، ومن أمثلة ذلك:
- استعماله معجم الكليات للكفوى ، كما فى: الدين والسياسة ص 221 و استعمال معجم كشاف اصطلاحات الفنون ، للتهانوى فى الدين والسياسة ص 21 ، ونقله معنى مصطلح التوكل عند الصوفية من كتاب: رسالة القشيرى ، كما فى كتابه : التوكل ص 17 .
ويصل الأمر بالقرضاوى دقة و ضبطا إلى أن يستعمل دوائر المعارف المختصة، فينقل عن دائرة المعارف الإسلامية ، كما فى فقه الزكاة 1/39 وموسوعة العلوم السياسية، كما فى الدين و السياسة ص27، ومن المدهش أن يلجأ إلى المعجمات الغربية ، كمعجم وبستر ، وأكسفورد عندما يكون بصدد بيان دلالة ألفاظ أجنبية كما فعل فى تحرير دلالة العلمانية ؛ له التطور العلمانى ص 13 ، وإن كان يؤخذ عليه نقله هذه المعانى بطريق الواسطة!
ثانيا: إدراك حقيقة تطور دلالة الألفاظ
ومن المدهش أن يدرك القرضاوى أن دلالات الألفاظ تتطور بفعل عوامل كثيرة، ومبحث تطور دلالات الألفاظ من الموضوعات الدقيقة التى يدرسها علم اللغة التاريخى، وقد اتخذ وعى القرضاوى بحقيقة تطور دلالات الألفاظ أشكالا مختلفة نظرية و تطبيقية.
(أ) ففى الإطار النظرى ينبه العلامة القرضاوى على ضرورة رعاية مدلول الكلمة فى عصر نزول القرآن ، يقول فى كتابه : كيف نتعامل مع القرآن العظيم ( ص 232):" وأود أن أنبه هنا على قضية مهمة جدا ؛ وهى أن اللغة التى يرجع إليها و يؤخذ بها هى : اللغة المعروفة فى عصر نزول القرآن ، والعبرة بما تدل عليه الألفاظ فى ذلك العصر ، لا بالدلالات الحادثة بعد ذلك ، فكثيرا ما تتطور دلالات الألفاظ و الجمل والتراكيب بتطور العصور ، و تطور المعارف والعلوم و اتصال الشعوب و حضارتها بعضها ببعض ، ويتدخل العرف أو الاصطلاح أو غيرهما بإعطاء دلالات جديدة للألفاظ و الجمل لم تكن لها فى عصر النبوة ، فلا يجوز أن نحكم هذه الدلالات الجديدة فى فهم القرآن".
وهو المعنى الذى يعود و يلح عليه فى كتابه : كيف نتعامل مع السنة النبوية ، دار الوفاء ، والمعهد العالمى للفكر الإسلامى ،1414هـ/1993م ص 179 ، قائلا :" ومن المهم جدا لفهم السنة فهما صحيحا التأكد من دلالات الألفاظ التى جاءت بها السنة ، فإن الألفاظ تتغير مدلولاتها من عصر لآخر ، ومن بيئة لأخرى ، وهذا أمر معروف لدى الدارسين لتطور اللغات و ألفاظها ، وأثر الزمان و المكان فيها".
وفى هذين النصين وقوف على عدد من الحقائق المهمة جدا التى تعرفها اللسانيات التاريخية كما يلى:
1- حقيقة تطور الألفاظ بمرور الزمن وبتغير البيئات والعوامل.
2- ثمة تطور إرادي عمدى بفعل الاصطلاح و المجامع و العلوم، وتطور غير إرادى بسبب عوامل التطور المختلفة ، البيئة الاجتماعية و السياسية إلخ
(ب) وعلى المستوى التطبيقى ينبه القرضاوى على ضرورة رعاية التطور الدلالى ، و أن إغفال هذا الأمر قائد إلى تخليطات، وأغلاط شرعية وفكرية مرعبة.
ومن أمثلة ذلك تحريم من حرم التصوير الفوتوغرافى اعتمادا على عدم رعاية ظاهرة المدلول لفظ " المصورين " الواردة فى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ، يقول القرضاوى فى كتابه : كيف نتعامل مع السنة ص 180".
"ومن لم يراع هذا الضابط (يقصد ضابط تطور مدلولات الألفاظ) يقع فى أخطا كثيرة كما نرى فى عصرنا ؛ خذ مثلا كلمة (تصوير) التى جاءت فى صحاح الأحاديث المتفق عليها ، ما المراد بها فى الأحاديث التى توعدت المصورين بأشد العذاب؟
إن كثيرا من المشتغلين بالحديث والفقه يدخلون تحت هذا الوعيد أولئك الذين نسميهم فى عصرنا (المصورين) من كل من يستخدم تلك الآلة التى تسمى (الكاميرا) أو يلتقط هذا (الشكل) الذى يسمى (صورة) فهل هذه التسمية ، تسمية صاحب الكاميرا (مصورا) ، وتسمية عمله ( تصويرا) تسمية لغوية؟
لا يزعم أحدا من العرب حين وضعوا الكلمة خطر ببالهم هذا الأمر ، فهى إذن ليست تسمية لغوية، ولا يزعم أحد أن هذه التسمية تسمية شرعية ؛ لأن هذا اللون من الفن لم يعرف فى عصر التشريع ، فلا يتصور أن يطلق عليه لفظ مصور ، وهو غير موجود فمن سماه مصورا وسمى عمله تصويرا إذن ؟
إنه العرف الحادث ، إنه نحن ، أو أجدادنا الذين ظهر هذا الفن فى زمانهم و أطلقوا عليه اسم التصوير ( الفوتوغرافى) وفى هذا النقل المطول تنبه إلى عدة حقائق مهمة ومؤثرة فى تكييف الحكم الفقهى اعتمادا على استثمار المعرفة اللغوية فى باب تطور دلالات الألفاظ منها:
أ- خضوع دلالات الألفاظ للتطور الحادث بسبب من المستحدثات الحضارية.
ب - التنبه إلى أن اتحاد اللفظ ( تصوير / مصور / صورة إلخ ) لا يستلزم بالضرورة اتحاد الدلالة ؛ بمعنى أن اللفظ وهو التصوير هنا واحد فى المبنى ، كثير فى المعنى بسبب الظروف والأحوال والأزمان. فهو من قبيل المشترك اللغوى الذى هو حقيقة قائمة فى اللسان العربى بسبب تغير الأزمان والبيئات فاللفظ له أكثر من دلالة ينبغى مراعاتهما عند استنباط الحكم من النصوص ، فهو بمعنى
1- النحت ، أو ما له ظل فى لغة النص النبوى الكريم ، وهو المتوعد عليه.
2- العكس أو الفوتوغرافيا فى لغة الواقع المعاصر بحكم العرف وبحكم استحداث آلة الكاميرا ، وهو ما لا مدخل له فى لغة النص الشريف.
ج - معلومات المستوى الدلالى ، وهو ما سوف يستقل بمطلب تال لأهميته فى توجيه المنجز الفكرى والفقهى والدعوى للقرضاوى.(يتبع)