د. خالد فهمي
إن المتأمل لما مر من الأمثلة التى التقطناها للتدليل على عناية القرضاوى بدلالات الألفاظ يقف على مجموعة فارقة من العلامات ، وهى فى مجموعها دالة على قيمة وعى القرضاوى بأهمية دلالات الألفاظ للفكر والفقه والدعوة و الحركة معا ، وفيما يلى محاولة للوقوف أمام هذه العلامات:
أولا- اتساع دائرة استثمار دلالات الألفاظ فى الأعمال التصنيفية والتأليفية المختلفة ، فقد استثمر الدكتور القرضاوى دلالات الألفاظ العربية فى مؤلفاته المتنوعة ، من دون تفرقة بين ما هو فكرى أو فقهى أو دعوى أو حركى منها.
ثانيا اتساع دائرة استثمار دلالات الألفاظ المختلفة، بمعنى إدراكه الفارق بين ما هو اللفظ اللغوى ، وما هو من الاصطلاح ، وهو ما انعكس فى ملمحين أساسين هما:
أ- تعيين المجال الدلالى للاستعمال؛ بالنص على ما هو لغوى وما هو غير لغوى.
ب- التفرقة فى الاستعمال بين المعجمات اللغوية للمعانى اللغوية ، والمصادر المختصة للمعانى الاصطلاحية.
ثالثا- إدراك الفوارق بين المعانى المختلفة ، وهو ما قاده إلى التفريق فى أحيان كثيرة بين أربعة انواع ظاهرة من المعانى هى:
أ- المعنى اللغوى (المعجمى)
ب- المعنى العرفى (فى استعمالات الناس فى الحياة اليومية)
ج- المعنى الشرعى و الاصطلاحى (فى مجال علم بعينه)
د- المعنى السياقى (الذى ينتجه تتابع الكلمت فى نص من النصوص ، أو ينتجه الارتباط بظروف خاصة تحيط باللفظ).
رابعا- عموم العناية بالمعنى فى التأليف جميعا ، أيا ما كان حجمها ـ كبيرا أو متوسطا، أو صغيرا.
خامسا- استغراق العناية بالمعنى فى مراحل التأليف المختلفة تاريخيا ، منذ بداياته الأولى حتى اليوم.
2/3 آراء القرضاوى فى القضايا اللغوية (اللسانية)
إن دارس منجز القرضاوى فى المجالات المعرفية المختلفة يقف على الوعى بقيمة عدد وافر من القضايا اللغوية أو اللسانية، والمدهش فى الأمر كامن فى وعى العلامة القرضاوى بعدد من القضايا اللغوية التى تكاد تغطى مساحة واسعة من جغرافيا الميادين اللسانية المتنوعة ، سواء كانت هذه القضايا منتمية إلى اللسانيات العامة أو التطبيقية ، وسواء كانت هذه القضايا مشغلة اللسانيات الاجتماعية أو غيرها.
وفيما يلى محاولة لرصد رءوس القضايا اللسانية التى ظهرت عناية القرضاوى بها واضحة فى عدد من مؤلفاته ؛ لخدمة قضايا الفكر والدعوة والحركة الإسلامية معا.
2/3/1 اللغة والهوية
ثمة إدراك متنام فى اللسانيات الاجتماعية المعاصرة للارتباط العضوى بين الهوية و اللغة؛ لدرجة تجعل اللغة واحدة من أهم مقومات تأسيس الهوية على ما يظهر جليا فى دراسات اللغة والهوية ، لجون جوزيف ، وفى دراسات القوميات المختلفة.
وقد ظهر من كتابات العلامة القرضاوى وعى بالغ الوضوح بهذه العلاقة العضوية بين اللغة والهوية ، وتمثل هذا الوعى فى الملامح التالية:
أ- النص الصريح على هذه العلاقة فى كتابات وحوارات مستقلة وقفت أمام هذه الحقيقة لذاتها ، وصرحت بها ، وانتصرت لها ، لدرجة وصلت به إلى أن يقرر فى حلقة من برنامج " الشريعة والحياة فى الرابع من أبريل سنة 2004م أن اللغة دين وهوية!
ب- تأكيد أمر الارتباط بين العروبة والإسلام وأن الرابط بين المفهومين متمثل فى الأثر الظاهر للسان العربى ، بما هو مقوم مركزى فى مفهوم العروبة ، وبما هو أساس لازم لفهم الإسلام ـ وتطبيقه.
وفى هذا السياق يلح العلامة القرضاوى على تأسيس اللغة للجنسية بمفهومها القومى السياسى معا فينقل منتصرا لما ينقله عن الشهيد حسن البنا استنباطه المفضى إلى الربط بين اللسان أو اللغة وبين الجنسية عندما يستشهد بحديث معاذ بن جبل رضى الله عنه الذى يقول النبى صلى الله عليه و سلم :" ألا إن العربية اللسان ، ألا إن العربية اللسان " على ما جاء فى كتابه ( الأمة الإسلامية : حقيقة لا وهم ، مكتبة وهبة 1415هـ/1995م ص23).
ج- ويتسع مفهوم الربط بين اللغة و الهوية ؛ ليتمدد عمقا و يؤثر على نقاط التماس مع الهوية ، للدرجة التى يصل فيها إلى التصريح بأن اللغة هى المكون الثانى للثقافة بعد الإسلام ، فيقول فى كتابه ( الثقافة العربية و الإسلامية بين الأصالة و المعاصرة ، مكتبة وهبة 1414هـ/1995م ص23):" واللغة – أى لغة – هى المكون الثانى للثقافة ، فهى وعاء العلوم و المعارف جميعا ، وأداة الإفهام و التعبير العلمى و الفنى و العادى ، ووسيلة التأثير فى العقل و الشعور بأدبها ونثرها و شعرها و حكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها و سائر ألوانها وأدواتها الفنية".
2/3/2 تقدير أثر القرآن الكريم فى تطور اللسان العربى
كانت أكثر الحقائق دورانا فى كتابات العلامة القرضاوى هى تلك التى تنطق بأثر الذكر الحكيم فى ترقى اللسان العربى ، وتطوره ، واتساع آفاقه و تقدم العلوم الكاشفة عن أسراره على مستوى اللفظ والتركيب والنص.
ومن المدهش فى دراسة تقدير القرضاوى أثر القرآن الكريم فى اللسان العربى أن يتخذ التعبير عن هذه الحقيقة بأشكال متعددة ؛ فقد ظهرت بما هى حقيقة لسانية مستقرة فى إطار التأريخ لتطور اللسان العربى و علومه ، وظهرت بما هى أساس داعم لسهمة الذكر الحكيم فى الدفاع عن الثقافة العربية التى ترقت لغتها بسبب من نزول الذكر الحكيم بها ، وبما هى مقدمة تبدو منطقية وبديهية لاستنتاج ما يترتب عليها من نتائج ضرورة الحفاظ عليها ، وصيانتها ، والتخطيط لمستقبلها ، ومقاومة محاولات إهمالها و إضعافها ولا سيما من قبل المستشرقين و المنصرين والمحتلين ، وفى بعض من هذا يقول القرضاوى فى كتابه ( الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة ، مكتبة وهبة ، 1414هـ/1994م ص 23-24:" لقد بلغت العربية الذروة حين نزل بها هذا النص الإلهى الذى أحكمت آياته ، ثم فصلت من لدن حكيم خبير ... لقد ضمنت العربية الخلود ، حين نزل بها القرآن الكريم الذى تكفل الله تعالى بحفظه﴿ إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون﴾ (سورة الحجر 15/9) .
وينبه القرضاوى أن هذا الارتباط بين اللغة و الذكر الحكيم و لزومها له كان سببا أصيلا لمحاولات تفريغها ، ومحاربتها ، يقول فى الكتاب نفسه ( ص24) : " فمن قرأ فن اللغة وشواهدها ، أو نحوها و صرفها و بلاغتها ، ورأى الشواهد و الأمثلة فيها وجدها ممزوجة بالقرآن مزجا ، وكذلك درس شعرها ونثرها لمس ذلك لمسا.
" ومن هنا نجد محاولات بعضهم اليوم تفريغ اللغة من هذه الظواهر الأصيلة وعزلها عن القرآن و السنة ... ولهذا نجد كل من يحارب الإسلام يحارب اللغة العربية معه ؛ إذ لا عربية بغير قرآن، ولا قرآن بغير بيانه".
وهذا الذى يقرره العلامة القرضاوى هنا فى آخر هذا النقل هو المستقر فى اللسانيات العربية المعاصرة ، يقول العلامة الراحل الكريم الدكتور رمضان عبد التواب فى (فصول فى فقه العربية ، مكتبة الخانجى ، سنة 1408هـ/ 1987م ص 108 و ما بعدها ) فى فصل عنوانه (لولا القرآن ما كانت عربية ) يقول فيه "نشأت الدراسات العربية بفروعها المختلفة متعلقة بالقرآن الكريم ، كتاب الله العزيز ، فكان القرآن، هو المحور الذى دارت حوله تلك الدراسات". ومنها الدراسات المتعلقة :"بالبحث فى دلالة اللفظ ، واشتقاق الصيغ ، وتركيب الجمل ، والأسلوب ، والصور الكلامية ، واختلافها باختلاف المقام".
ولم يكن إدراك هذا الأثر الجبار للقرآن الكريم فى ترقى اللسان العربى وعلومه وليد العقل العربى والإسلامى فى ميدان دراسة اللسانيات ، وإنما تجاوز الأمر ليظهر حقيقة مستقرة نطق بها دارسوا اللغة العربية فى الغرب كذلك ، وفى هذا السياق يأتى كتاب ديفيد جتس الذى ترجمه العالم اللغوى الكبير الدكتور /حمزة بن قبلان المزينى بعنوان ( محاسن العربية فى المرآة الغربية ) دليلا ظاهرا على ما نقرره هنا مع العلامة الدكتور القرضاوى (نشره مركز الملك فيصل ، الرياض سنة 1425هـ) .
وقد وصل الأمر بعدد من الدارسين المعاصرين أن يظهر فى عنوانات كثير من الدراسات تقدير أثر القرآن الكريم فى تطور الدراسات اللغوية و النحوية والنقدية عند العرب ؛ على ما يظهر من صنيع محمد زغلول سلام ، وعبد العالم سالم مكرم على سبيل المثال.
2/3/3 الوعى بمستويات الدرس اللغوى وانعكاسها على بنية العلوم الشرعية إيجابيا
أدرك العلامة القرضاوى أن معلومات اللغة بمستوياتها المختلفة ، لازمة للتعامل مع النصوص الشرعية فهما ، وتفسيرا ، واستنباطا للأحكام منها ، وهو ما تجلى فى ظهور الوعى بالمستويات اللغوية المتنوعة ، واستثمارها خدمة للنصوص الشرعية.
وقد توزعت هذه المعلومات بشكل ملحوظ على المستويات التالية:
أ- المستوى الصرفى؛ أو ما يتعلق بصيغ الكلمات، وأبنيتها.
ب- المستوى التركيبى أو النحوى، أوما يتعلق بمواقع الألفاظ فى تراكيب الجمل المختلفة.
ج- المستوى الدلالى ، أو ما يتعلق بالمعنى فى تنوعه المختلف ، وقد تجاوز الأمر فى أحيان أخرى إلى إدراك بعض ما يتعلق بعدد من معلومات المعجمية ، والاشتقاق ، ومستوى الاستعمال ، وما ينتجه السياق أو يتحكم فيه مما يؤثر على المعانى المختلفة.
وفيما يلى محاولة لإثبات وعى العلامة القرضاوى بمعلومات اللغة المتنوعة والمتوزعة على مستويات درسها المختلفة:
أ- ومن أمثلة المعلومات الصرفية ما ذكره فى الكلام عن معنى لفظ الزكاة فى تمهيد كتابه ( فقه الزكاة 1/37) يقول :"الزكاة لغة : مصدر زكا الشئ إذا نما و زاد" ويستطرد فينقل أصول تصاريف الكلمة فيقول :"يقال: زكا الزرع يزكو زكاء ، وكل شئ ازداد فقد زكا".
ويذهب إلى أبعد من هذا فيحرص كثيرا على ذكر جذر المادة وما يتعلق به من أصل المعنى؛ فى مثل تقريره أن أصل مادة " زكا " الزيادة والنماء.
والمعلومات التى وردت فى هذا المثال مهمة لمن يريد تحصيل أصول معنى لفظ الزكاة ، وهو ما استلزم ذكر:
• معلومة "المصدر" بما هو دال على الحدث المجرد
• ومعلومات تصريف الفعل
• و معلومات أصول المعنى
ب- ومن أمثلة المعلومات النحوية التى كان كثيرا ما يستثمرها لخدمة أعماله الشرعية فقها و دعوة و فكرا ما أورده فى سياق بيان أثر الضعف فى النحو فى التعامل مع الذكر الحكيم ، وما يجره من تخليطات فقهية و دعوية و علمية ، يقول فى كتابه ( كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، دار الشروق ، الطبعة السابعة 2009م ص 362 ) : "كنت أناقش واحدا من الشباب الذين قرءوا كثيرا ، لكنه لم يتكون التكوين العلمى الصحيح ، وكان حول آية السيف ، وما هى ؛ فقال هى قوله تعالى ﴿فقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ [سورة التوبة 9/36] فسألته عن إعراب كلمة ﴿كافة﴾ فقال : ربما كانت حالا ، قلت : هى حال فعلا ولكن من صاحبها ؟ فسكت ؛لأنه لم يفهم معنى قولى ! قلت : أعنى أهى حال من الفاعل فى الآية ، وهو ( واو الجماعة ) فى قوله ﴿و قاتلوا﴾ أم من المفعول به ، وهو قوله ( المشركين )؟ وكان كلامى كأنه طلاسم بالنسبة إليه والأمر واضح ، فإنه إذا كانت كلمة ( كافة ) حالا من الفاعل وهو واو الجماعة كان معناها : تجمعوا كافتكم على قتال المشركين ، كما يتجمعون كافتهم على قتالكم . وهذا قتال مشروع عند جميع البشر ؛ لأنه يدخل فى القتال الدفاعي".
ففى هذا النص بيان لمسألة معروفة فى النحو العربى تتعلق بصاحب الحال و عليه ، فإن تعيين محل بيان الهيئة أمر لازم لتفسير الآية الكريمة ، ومن بيان ما يترتب عليها من حكم ، ثم فعل و سلوك.
ج- وأمثلة الوعى بمستوى الدلالة الذى ظهرت براعة القرضاوى فيه بشكل طيب ، غطت مساحة واسعة من معلومات هذا المستوى ، لدرجة مثيرة للانتباه والتقدير معا. (يتبع)