د. يوسف القرضاوي
يفرض القانون عقوبات مادية رادعة على من يرتكبون الجرائم، ولكن المخالفين للقانون يحاولون الفرار من قبضته، والتفلت من دائرة سلطانه، وفي غفلة من القانون والرقباء عليه، يقدمون على أعمالهم، مستخفين عن الأعين، أو ظاهرين وقد ألبسوا عملهم الآثم ثوب القانون أو مستندين إلى ذي سلطان يشفع لهم، أو يحمي ظهرهم، إلى آخر ما نعرف عن صور التفلت من يد القانون.
فإذا نظرنا إلى ما يفرضه قانون الإيمان على صاحبه وجدنا صورة أخرى، ومنطقاً آخر، وجدنا المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً -وهو بطبيعته بشر يخطئ ويصيب- سرعان ما يستيقظ ضميره، ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلى يد العدالة، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من آثام الإثم، وأوزار العصيان، ورجاء في أن تكون كفارة له عن ذنبه، وشفيعاً له إلى ربه، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه.
فهذا رجل عربي -هو ماعز بن مالك- يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فيقول له : لعلك لامست؟ لعلك قبلت! لعلك فاخذت! ويرد الرجل مرة ومرة ومرة، والرجل مصر على الاعتراف بخطيئته، مصر على التطهر منها بإقامة حد الله عليه، ولو كان الرجم بالحجر، ويأمر الرسول أخيراً إقامة الحد عليه، فيتقبله صابراً محتسباً، راغباً في عفو الله ومغفرته.
وهذه امرأة أعرابية تعرف بالغامدية، تزني ويضطرب في أحشائها جنين من الزنا، فيأتي عليها ضميرها المؤمن -وقد ارتكبت الفاحشة سراً- إلا أن تتطهر منها جهاراً.
وجاءت رسول الله تقول له: إني قد زنيت فطهرني؟ فيردها الرسول فتأتي في الغد فتقول: يا رسول الله .. لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً .. فوالله إني لحبلى!!
فيقول لها: أما لا .. فاذهبي حتى تلدي.
وتذهب المرأة تنتظر الوضع، وتمضي عليها الأيام والأشهر دون أن تخبو جذوة ضميرها. فما أن ولدت حتى أتت بالصبي في خرقة، وقالت للرسول: ها قد ولدته.
قال لها: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
وتعود المرأة إلى دارها ترضع ولدها، وتمضي مدة الرضاع -وهي في العادة حولان كاملان- أربعة وعشرون شهراً لم يستطع اختلاف الليل والنهار فيها أن ينسي المرأة ما ارتكبت من خطيئة.
وبغير إعلان من محكمة، ولا تنبيه من حاكم، ولا حراسة من شرطي ترجع المرأة إلى رسول القوانين طائعة مختارة، لتلقى مصيرها الذي رضيته لنفسها فتقدم إليه الصبي وفي يده كسرة من الخبز، وتقول: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.
ولم يجد النبي بداً بعد هذا أن أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد، فسبها .. فسمع نبي الله سبه إياها .. فقال: "مهلا يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى!" (القصة رواها مسلم).
.....
- المصدر: "الإيمان والحياة" لسماحة الشيخ.