د. يوسف القرضاوي
حق الأكثرية المسلمة في الاحتكام إلى شريعة ربها:
ومن المهم جدًّا أن يكون من حقِّ الأكثرية المسلمة أن تحتكم إلى شريعة ربِّها، وتطبِّقها في شؤونها، على ألا تحيف على حقوق الأقلية. ويجب على الأقلية ألا تضيق صدرا بذلك، وهو ما كان عليه الأقباط طوال العصور الماضية والحديثة، قبل كيد الاستعمار ومكره، ولم نرهم يتبرَّمون بالنصِّ على أن دين الدولة الإسلام، بل رأيتُ كثيرا من عقلاء المسيحيين في مصر وفي غيرها طالبوا مخلصين بوجوب تطبيق الشريعة وأحكامها وحدودها، ورأوا في ذلك العلاج الناجع للجرائم والرذائل في مجتمعاتنا.
وكما أن الأقلية رضيت بالقوانين المستوردة من الخارج، ولم تجد في ذلك حرجا، فأولى بها أن ترضى بشريعة الإسلام، فهي قطعا أقرب إلى المُثُل العليا التي جاءت بها المسيحية من القوانين الأجنبية، ثم هي قوانين (الدار) التي تعيش فيها الأقلية وتتعامل معها، فالمسلم يتقبَّل الشريعة على أنها دين وانقياد لله، وغير المسلم يتقبَّلها على أنها قانون ونظام رضيته الأغلبية، شأنه شأن سائر الأنظمة والقوانين.
قلتُ هذا الكلام أو نحوه، في الإجابة عن سؤال د. جورج إسحاق، وصفَّق الحاضرون إعجابا وقَبولا، وبعد انتهاء الندوة، جاء الدكتور إسحاق يشدُّ على يدي، ويقول لي: ليتك يا دكتور قرضاوي تأتي إلى الكنيسة لتقول هذا للأقباط في عقر دارهم، فإن عندهم هواجس ومخاوف كثيرة من تطبيق شريعة الإسلام، وربما ساهم في هذا الخوف بعض المتشدِّدين من المسلمين.
وقلتُ للدكتور: أنا لا أمتنع عن هذا إذا دُعيتُ، والواجب علينا البيان والبلاغ حتى لا تلتبس الأمور، وتُفهَم الحقائق على غير وجهها، ويستغل أعداء الأمة ذلك، ليوقدوا نار الفتنة، ويضربوا أبناء الأمة الواحدة بعضهم ببعض، وهم المستفيدون أولا وآخرا.
أما الآراء المتشدِّدة والمضيِّقة، والتي تتمسَّك بحرفية ما جاء في بعض الكتب التي كُتبت في زمن غير زمننا، ولمجتمع غير مجتمعنا، وفي ظروف غير ظروفنا، فهي لا تلزمنا، وقد قرَّر المحقِّقون من علمائنا: أن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعُرف والحال، وقد تغيَّر كلُّ شيء في حياتنا كمًّا وكيفا، عما كان عليه أيام هؤلاء الفقهاء[1] .
هل يمكن أن تنشأ مودة بين المسلم وغير المسلم؟
هل يجوز أن تقوم بين المسلم وغير المسلم: مودة في التعامل الإنساني، ولا سيما إذا كان غير المسلم على خلق طيب، وسريرة صافية، ويتعامل مع المسلم بكلِّ صدق وإخلاص، وربما كان جاره في المسكن، أو زميله في الدراسة، أو رفيقه في السفر، أو شريكه في العمل، أو غير ذلك: هل يمنع الدين من هذه المودة، وحسن العلاقة التي تنعقد بين الناس بعضهم وبعض بحكم الطبيعة البشرية، وإن اختلفت دياناتهم؟
إن من المهمِّ: أن نجيب عن هذا التساؤل المهم، ونبيِّن موقف الإسلام، فإن بعض الناس قد تلتبس عليه الأمور، نتيجة لسوء فَهم بعض النصوص، ووضعها في غير موضعها.
فمَن الناس مَن اتخذ من قوله تعالى في سورة المجادلة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، اتخذوا منها دليلا على أن الإسلام ينهى عن مودة المسلم لغير المسلم بصفة مطلقة، ويؤكِّدون ذلك بقوله تعالى في أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة:1].
وأودُّ أن أبيِّن هنا: أن آية المجادلة لا تنهى عن مودة مَن كان غير مسلم، ولو كان مسالما للمسلمين، بل تنهى عن موادة: {مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}، أي حارب الله ورسوله، وشاقَّ الله ورسوله، فهذا شخص معادٍ للإسلام وأهله، فكيف يُطلَب من المسلم أن يُظهِر له الودُّ والمحبَّة؟
ولو كانت مودَّة غير المسلم ممنوعة في الإسلام بصفة مطلقة: ما أجاز الشرع الإسلامي للمسلم أن يتزوَّج الكتابية، والزوجية في نظر الإسلام تقوم على أسس وأركان، منها: المودَّة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. [2]
ولذا قال ابن عباس: لا يجوز زواج الكتابية إذا كانت من قوم معادين للمسلمين. واستدلَّ العلماء لقوله بهذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. والمفروض في الحياة الزوجية ما أثبتته الآية الأخرى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .
إن زواج المسلم من الكتابية، يعني: أن تكون شريكة حياته، وربة بيته، وموضع سره، وأم أولاده. فهل يطلب من الأولاد ألا يودوا أمهم، وهم مأمورون ببرِّها؟ بل هم مأمورون بصلة أرحامهم من جهة أمهم: جدهم وجدتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم، وكلهم من ذوي القربى.
وبهذا يتبيَّن لنا: أن آية: {مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}، تعني: الأعداء المحاربين للمسلمين.
يؤكِّد هذا آية الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...} [الممتحنة:1].
فالآية قد عبَّرت عنهم بأنهم أعداء الله، وأعداء المسلمين: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ}، وليس مقبولا أن يعادوا الله ورسوله والمؤمنين، ويقابل المسلون معاداتهم بالولاء لهم، وإلقاء المودَّة إليهم.
وليس هذا لمجرَّد كفرهم بالإسلام، بل ضمُّوا إليه إيذاء المسلمين وحصارهم وتعذيبهم وفتنتهم في دينهم، حتى أخرجوهم من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولذا قالت الآية: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة:1].
الأمل في تغيُّر مشاعر القلوب من عداوة إلى مودة:
وقد ذكرت السورة قاعدة من أعظم قواعد السلوك والتعامل مع المخالفين، ولو كانوا أعداء، وهي: أن العداوة ليست أمرا دائما وأبديا بالضرورة، فقد تستحيل العداوة إلى مودَّة، ودوام الحال من المحال، وهذا ما قرَّرته السورة بصيغة الرجاء، وهو رجاء من الله يوحي بقرب الوقوع، حيث قال تعالى: {عَسَى الله أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَالله قَدِيرٌ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7]. أي: {وَالله قَدِيرٌ} على تحويل القلوب من كراهية إلى مودَّة، {وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعفو عما سلف، ويسامح عباده فيما مضى.
وأهمُّ من ذلك وأعظم: ما قرَّرته السورة من دستور في معاملة غير المسلمين، سنتحدَّث عنه بعد[3].
المقصود من آية: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}:
ومن الناس مَن يستدلُ بقوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...} [المائدة:51]، تحريم مودة المسلم لكلِّ يهودي أو نصراني بإطلاق. وهذا الاستدلال غير مُسلَّم، فالآية يجب أن تُُفهم في ضوء السياق وأسباب النزول للآيات.
والآية التي تليها تشير إلى أن اليهود والنصارى كانوا معادين للمسلمين، وكانوا في حالة من القوة والمنعة، بحيث أصبح كثير من المنافقين ومرضى القلوب يحاولون التقرُّب إليهم، والموالاة لهم على حساب دينهم وأمتهم وجماعتهم. وهذا لا ينازع منصف في أنه خطر على سيادة الأمة ووحدتها وتماسكها، ولا سيما في مرحلة تكوينها، وتأسيس بنيانها.
تقول الآية الكريمة التالية للآية المذكورة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى الله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:52، 53].
فالواضح من هذه الآية الأخيرة: أننا أمام جماعة من المنافقين الانتهازيين المخادعين، الذين يخونون جماعتهم، ويوالون أعداءها، ويحلفون لهم كاذبين: {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}! ولذا يقول القرآن: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}.
ولا غرو أن مَن يوالي الأعداء وينضمُّ إليهم، ويلقي إليهم بالمودَّة على حساب أمته: لا يشكُّ أحد في أن عمله أمر مجرَّم وطنيا، ومحرَّم دينينا، ولا سيما في أوقات الصراع والحروب، فهو في نظر الوطنية: خيانة، وهو في نظر الدين: ردَّة، وهي معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
ومن هنا جاءت الآية التالية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. كأن الآية تقول: إن هؤلاء الذين خانوا قومهم، وانضمُّوا إلى أعدائهم، وارتدُّوا عن دينهم، سيعوِّض الله الأمة خيرا منهم، بجيل جديد أو أجيال جديدة على نقيض هؤلاء.
فهذه الآيات ليست في مطلق يهود ونصارى عاديين مسالمين للمسلمين، بل في يهود ونصارى معادين لهم، محاربين لدعوتهم، كاليهود الذين نقضوا عهد رسول الله، وانضمُّوا إلى أعدائه من الوثنيين المشركين، الذين أغاروا على المدينة، وأرادوا القضاء على الرسول وأصحابه، واستئصال شأفة المسلمين، واقتلاع الإسلام من جذوره.لحساب الوثنية الجاهلية المعتدية .
والآيات التالية في سياق النهي عن الولاء لليهود والنصارى تؤكِّد ذلك. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57، 58].
فهؤلاء قوم أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله، وهزأوا بعقيدته، وهزأوا بشعائره، وأعظمها الصلاة، واتَّخذوها هزوا ولعبا.
أما اليهود والنصارى العاديون المسالمون، فهم في نظر المسلمين: (أهل كتاب)، أجاز القرآن مؤاكلتهم، كما أجاز مصاهرتهم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5].
النصارى أقرب مودة للمسلمين من اليهود:
وإذا كان أهل الكتاب لهم مكانة خاصة، ومعاملة خاصة لدى المسلمين، فإن النصارى منهم يعتبرهم القرآن أقرب مودَّة للمسلمين من اليهود الذين بارزوه بالعداوة برغم مبادرة الرسول عليه الصلاة والسلام، بعقد الاتفاقية معهم بُعَيد هجرته إلى المدينة، وقد جعلهم فئة من أهل الدار، يتناصرون في السلم والحرب، ويتواسون في السرَّاء والضرَّاء..
قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، ولا غرو إن وجدنا الرسول الكريم - منذ العهد المكي - يأمر أصحابه الذين اضطَّهدهم المشركون: أن يهاجروا إلى الحبشة، التي كان ملكها ملكًا نصرانيا، لشعوره بقربه من الإسلام، وقد كان عند حسن الظنِّ به، وأبى أن يفرِّط في المسلمين، أو أن يستجيب لطلب قريش: إعادتهم إلى موطنهم الذي فرُّوا منه.
صدر سورة الروم ينطق بقرب النصارى من المسلمين:
ولعل الآيات التي صُدِّرت بها سورة الروم، تدلُّنا بجلاء على قرب النصارى من المسلمين، فقد قامت حرب بين الدوليتين العظميين في ذلك الزمن: الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وانتصر الفرس على الروم في أول الأمر، فحزن لذلك المسلمون، وفرح المشركون، لأن الفرس مجوس يعبدون النار، ويعبدون إلهين: للخير والشر، أو للنور والظلمة، فهم أقرب إلى مشركي العرب عبدة الأوثان، والروم كانوا نصارى أهل كتاب، فكانوا أقرب إلى المسلمين.
القرآن يقول عند انتصار الروم النصارى على الفرس المجوس: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}، وتجادل الفريقان وتراهنوا حول مستقبل الأمتين، ولمَن تكون الغلبة بعد؟ وكان المسلمون بطبيعة الحال مع الروم، والمشركون مع الفرس، فنزل قوله تعالى: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1-5].
فانظر كيف بشَّر القرآن المسلمين بنصر الروم، وكيف عبَّر عن مشاعر المسلمين بقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله}.
فهذا هو موقف الإسلام المبدئي من أهل الكتاب عامة، ومن النصارى خاصة.
تصديق القرآن للتوراة والإنجيل وتصحيحه لهما:
وهذا لا يمنع أن تأتي آيات من القرآن تنقد اليهود أو النصارى أو أهل الكتاب عامة، فيما حرَّفوا من كتبهم، وما بدَّلوا من عقائد موسى وعيسى ، ومن مِلَّة إبراهيم، وما غيَّروا من شرائع أنبيائهم، فالقرآن قد جاء مصدِّقا ومتمِّما للتوراة والإنجيل، كما أعلن ذلك في آيات كثيرة، كما جاء أيضا (مصحِّحا) لها، أو بتعبير آخر ومهيمنا عليها، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48].
إنصاف القرآن لأهل الكتاب:
كما ينقد القرآن مواقف أهل الكتاب - وخصوصا اليهود - من دعوة الإسلام، ورسول الإسلام، وأمة الإسلام، ومع هذا يأمر الرسول والمسلمين بالعفو والصفح، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
ومعنى: {حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}، أي حتى يشرح الله صدورهم للإسلام، ويدخلوا فيه اختيارا، أو يروا انتصار الإسلام وعلو كلمته أمام أعينهم.
وقد أكَّدت سورة المائدة - وهي من أواخر ما نزل من القرآن - ذلك في قوله تعالى في شأن بني إسرائيل، وقد نقضوا ما أخذ الله عليهم من ميثاق: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
فرغم ظهور الخيانة من أكثرهم، أُمِر الرسول أن يعفو عنهم ويصفح، فهذا من الإحسان الذي يحبُّه الله تعالى. وهذا في نفس السورة التي نهت عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
ونلاحظ أن القرآن حين دان بني إسرائيل قال: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ}، وذلك ليؤسس منهج العدل مع الخصوم في الرضا والغضب، ولذلك استثنى فقال: {إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ}، فلا يقبل القرآن لغة (التعميم) دائما وفي كلِّ حال.
وهذا هو نهج القرآن معهم، ففي سورة آل عمران بعد أن تحدَّث عن بعض مساوئهم التاريخية، وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ، قال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:113-115].
فهذا هو مبدأ القرآن في العدل مع الخصوم: الاستثناء: {إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [المائدة:13]، وعدم التسوية بين الجميع: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113].
حكم من لم تبلغه دعوة الإسلام بلوغا صحيحا:
ويقرِّر القرآن: أن مَن أقام منهم الأركان الأساسية للدين، وهي: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالخلود والجزاء في الآخرة، والعمل الصالح، فإن الله لن يضيع أجره، ولن يخيِّب سعيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
وقد كرَّر القرآن هذا المعنى وأكَّده في آية أخرى من سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69].
وهذا فيمن لم تبلغه دعوة الإسلام بلوغا صحيحا مشوِّقا تقوم به الحجَّة، أما مَن بلغته الدعوة، وتبين له أنها حقٌّ، فعاندها وعاداها، حبًّا للدنيا، واتباعا للهوى، فهذا هو الذي جاء فيه الوعيد من الله تعالى في القرآن: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]. آية: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}:
ومن الآيات التي تُذكر كثيرا، ويُساء فَهمها في العلاقة بين المسلمين من ناحية واليهود والنصارى من ناحية أخرى: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
أرى كثيرا من المتدينين المسلمين الذين لا يتدبَّرون الآيات، ولا يتأمَّلون النصوص بعمق: يجدون في هذه الآية حائلا دون التفاهم والتعايش والتسامح مع اليهود والنصارى، كلِّ اليهود والنصارى.
وهذا ليس بصحيح، ولا ينبثق هذا التفكير عن فَهم سليم للآية الكريمة، لعدَّة أمور:
أولا: لأن الآية خطاب خاصٌّ للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ}[4] ، ولم تجئ بلفظ عام من ألفاظ العموم المعروفة.
وثانيا: لو سلَّمنا بأنها خطاب للجميع، فإنها لا تدلُّ على أكثر من نفْي رضاهم عنا - الرضا الكامل، أو الرضا المطلق - حتى نتَّبع مِلَّتهم. وهذا شأن كلِّ ذي مِلَّة متمسِّك بمِلَّته، حريص عليها. ونحن كذلك لا نرضى عنهم تمام الرضا حتى يتَّبعوا مِلَّتنا. فهو موقف طبيعي ومتبادل بين أهل المِلل أو أهل الأديان جميعا. وقد قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145].
وثالثا: إن هدفنا ليس إرضاء اليهود والنصارى، حتى يكون عدم رضاهم حجر عثرة في طريقنا، أو عائقا دون تفاهمنا وتعايشنا، بل هدفنا هو إرضاء الله تبارك وتعالى قبل كلِّ شيء - وسواء رضي الناس عنا أم سخطوا - ولن نبيع رضوان الله تعالى برضا أيِّ مخلوق كان، ولا بأيِّ ثمن مادي أو أدبي، ولو وضعوا الشمس في أيماننا، والقمر في شمائلنا، ما فرَّطنا مثقال ذرَّة في ابتغاء مرضاة ربنا!
ورابعا: أن الإسلام - برغم وجود هذه الآية - لم يمنع المسلم أن يؤاكل اليهودي أو النصراني، وأن يصاهره، فيتزوَّج ابنته أو أخته أو قريبته، وينجب منها أولادا، يبرُّون أمهاتهم وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم، ويعاملونهم بما يجب لذوي الأرحام وأولي القربى من الحقوق والحرمات. كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6]، {وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1].
......................
* من كتاب "فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة العلامة، الفصل الثالث من الباب العاشر (2/ 1215 - 1272) ط (4) 2014م، مكتبة وهبة، القاهرة.
[1] انظر: كتابنا (موجبات تغير الفتوى) من منشورات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. ونشر دار الشروق بالقاهرة.
[2] انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/326).
[3] في الفصل الرابع من هذا الباب ص 1274 ،1275
[4] قال الألوسي: والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم، من إسلامهم ما لا غاية وراءه، فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاَّهم وما يفعلون، بل أمَّلوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان وهو الاتباع لملَّتهم التي جاء بنسخها، فكيف يتصوَّر اتباعهم لملَّته صلى الله تعالى عليه وسلم؟! واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم اهـ. انظر: روح المعاني (1/371).