د. يوسف القرضاوي

(5) مشكلة عدم الاعتراف مطلقا بالإسلام:

وهناك مشكلة مزمنة في الحوار الإسلامي المسيحي، وهي: أننا - نحن المسلمين - نعترف بالمسيحيين، وهم لا يعترفون بنا، أيَّ اعتراف، لا يعترفون بنا دينا، ولا يعترفون بنا أمة.

نحن نؤمن بأن المسيحية - وبالتعبير الإسلامي: النصرانية - ديانة سماوية منزَّلة من عند الله، وأن الإنجيل أحد الكتب السماوية المقدَّسة، وأن المسيح عيسى ابن مريم رسول من أولي العزم من الرسل، وأن أمه صدِّيقة مطهَّرة مُصطفاه على نساء العالمين.

بل إن القرآن لينسب إلى المسيح من الآيات والمعجزات ما لا يوجد في الإنجيل نفسه، وإن القرآن ليخصِّص سورة لمريم عليها السلام، ولم يفعل مثل ذلك لآمنة بنت وهب أم محمد، ولا لخديجة بنت خويلد زوج محمد، وأول مَن آمن به، ولا لفاطمة بنت محمد على ما لها من منزلة في المسلمين.

يقول الله تعالى في القرآن: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء:171]، {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44]، {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].

وهذا موقف القرآن والإسلام من أهل الكتاب جميعا: أهل التوراة وأهل الإنجيل، أو اليهود والنصارى. وإن كان الإسلام يقرِّر أنهم حرَّفوا في كتابهم وبدَّلوا، تحريفا لفظيا وتحريفا معنويا، ولكن هذا لم يخرجهم عن أنهم في أصلهم أهل كتاب.

ومن هنا يناديهم القرآن بندائهم الخاص بهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}. ويجعل لهم أحكاما خاصَّة بهم تميِّزهم عن سائر الطوائف من غير المسلمين، فأجاز مؤاكلتهم، بمعنى أكل ذبائحهم، ومصاهرتهم، بمعنى التزوُّج من نسائهم، وقال القرآن في ذلك: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة:5].

فأباح للمسلم أن يتزوَّج من كتابية: يهودية أو نصرانية، وهذه قمة في التسامح، أن تصبح شريكة حياته وأم أولاده نصرانية، ويصبح أهلها أصهاره، وأجداد وأخوال وخالات أبنائه وبناته، وهؤلاء لهم حقوق ذوي الأرحام وأولي القربى.

وفي مقابل هذا، لا نجد أيَّ اعتراف من النصارى - وكذلك من اليهود - بالمسلمين، فالمسلمون عندهم أمة مزوَّرة على التاريخ الديني، فنبي المسلمين محمد مدَّعٍ كذَّاب، وقرآن المسلمين ليس له صلة بالله ولا بالسماء، بل هو كتاب مختلق، صنعه محمد ونسبه زورا إلى الله!!

فكيف يتحاور فريقان، وكيف يلتقيان على الحدِّ الأدنى، وبينهما من البعد ما ذكرت، إلا أن يكون لقاء على دَخَن، أو يكون القصد هو المجاملة والتحيَّات المتبادلة، وتقارض الثناء ظاهرا، فإذا جدَّ الجدُّ، وأراد الفريقان وضع النقاط على الحروف، ظهر الخلاف، وطغى على السطح، ووجدنا الأمر كما قال الشاعر: سارت مشرِّقة وسرتَ مغرِّبا * شتَّان بين مشرِّق ومغرِّب

وأذكر أني حضرتُ مؤتمرا للحوار الإسلامي المسيحي في القاهرة، وكان معظم الحاضرين من نصارى الشرق، وإن ضمَّ بعض ممثِّلين من أوربا وأمريكا.

وبعد إلقاء الكلمات، والانتهاء من المناقشات: أريد إصدار بيان ختامي يتضمَّن توصيات المؤتمر وقراراته، وكان من الفقرات التي اقتُرحت في البيان: أن أصحاب الأديان السماوية الذين أزعجهم ما أصاب البشرية من غلبة الفلسفة المادية والإباحية ... إلخ، فإذا بإخواننا وشركائنا في الحوار، يعترضون على كلمة (أصحاب الأديان السماوية) قائلين: إننا لا نعترف بالإسلام دينا سماويا منزَّلا من عند الله!!

وكان من الفقرات المقترحة أيضا، فقرة تقول: إن القِيَم الربَّانية التي جاءت بها الأديان، هي طوق النجاة للبشرية ... فإذا برفقائنا في الحوار يعترضون على كلمة (الربانية)؛ لأنهم ينكرون كلَّ صلة للإسلام بالربِّ والربَّانية، ولا مانع أن يُستبدل بها كلمة (القِيَم الدينية) ونحوها، على اعتبار أن كلمة (الدين) تشمل الدين السماوي، والدين الوضعي.

وأذكر أني قلتُ لمحاورينا من النصارى الشرقيين والغربيين: إذا كنا - نحن المسلمين - في رأيكم واعتقادكم، لا صلة لنا بالسماء ولا بالربِّ، وأن ديننا يقوم على (أكذوبة كبرى) افتراها محمد، وصدَّقها الناس من حوله، فكيف يمكننا أن نتلاقى وأن نتفاهم، وأن يضع كلٌّ منا يده في يد أخيه، في سبيل العيش المشترك، والخير المشترك للجميع؟

إننا ندعو النصارى في بلاد الشرق، وفي أنحاء العالم - إذا أُريد لحوارنا أن يؤتي أُكله، ويحقِّق أهدافه - أن يعيدوا النظر في أُسس علاقاتهم بالمسلمين، كما أعاد الفاتيكان النظر في أساس علاقتهم باليهود، وأصدروا وثيقة تبرِّئهم من دم المسيح عليه السلام، على خلاف ما هو معروف من قبل، وما هو مقرَّر في التاريخ، وما هو مجمع عليه عند النصارى، منذ ظهور المسيح، وما أصابه من البلاء في سبيل دعوته، إلى أن صدرت هذه الوثيقة سنة 1965م.

موقفنا من النصارى أو (الأقليات الدينية) داخل دار الإسلام:

عرضنا لموقف الإسلام من الأقليات في أكثر من كتاب لنا، منها (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، ورسالة (الأقليات الدينية والحل الإسلامي)، وكتاب (أولويات الحركة الإسلامية)، وبعض الفتاوى والبحوث في كتابنا (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني، وكتابنا (من فقه الدولة في الإسلام)[1]. كما بيَّنا ذلك في محاضرات شتَّى في أكثر من بلد. ومعظم الأقليات في الواقع أقليَّات نصرانية.

وأعتقد أن اجتهادنا في هذه القضية الكبيرة قد استبانت معالمه، واتَّضحت صورته في ضوء الأدلَّة الشرعية، ولقي القَبول من جمهرة علماء المسلمين.

كيف تحلُّ مشكلة الأقليات الدينية؟

ويمكن أن أقتبس بعض ما كتبتُه من قبل هنا، لإيضاح موقف الاجتهاد الإسلامي المعاصر من هذه القضية الخطيرة، التي يستغلُّها أعداء الأمة بين الحين والحين لأغراض في أنفسهم، لإثارة الفتنة الطائفية، حتى إنهم في أمريكا اليوم - بتأثير اللوبي الصهيوني - يزعمون أن الأقباط مضطَّهدون دينيا في مصر، وهو زعم لا أساس له. ويتلخَّص موقفنا فيما يلي:

لا وجه لدعوى بعض الناس، وجُلِّهم من العلمانيين الذين لا يوالون الإسلام ولا المسيحية: أن الاتجاه إلى الحلِّ الإسلامي والشرع الإسلامي ينافي مبدأ الحرية لغير المسلمين، وهو مبدأ مقرَّر دوليا وإسلاميا، فقد نسَوا أو تناسوا أمرا أهمَّ وأخطر، وهو أن الإعراض عن الشرع الإسلامي والحلِّ الإسلامي من أجل غير المسلمين - وهم أقلية - ينافي مبدأ الحرية للمسلمين في العمل بما يوجبه عليهم دينهم، وهم أكثرية.

وإذا تعارض حقُّ الأقلية وحقُّ الأكثرية، فأيُّهما نقدِّم؟

إن منطق الديموقراطية - التي يؤمنون بها ويدعون إليها - أن يقدَّم حقُّ الأكثرية على حقِّ الأقلية.

هذا هو السائد في كلِّ أقطار الدنيا، فليس هناك نظام يرضى عنه كلُّ الناس، فالناس خُلقوا متفاوتين مختلفين. وإنما بحَسْب نظامٍ ما: أن ينال قَبول الأكثرية ورضاهم، بشرط ألا يَحيف على الأقلية، ويظلمهم ويعتدى على حرماتهم، وليس على المسيحيين ولا غيرهم بأس ولا حرج أن يتنازلوا عن حقِّهم لمواطنيهم المسلمين ليحكموا أنفسهم بدينهم، وينفِّذوا شريعة ربهم حتى يرضى الله عنهم.

ولو لم تفعل الأقلية الدينية ذلك، وتمسَّكت بأن تنبذ الأكثرية ما تعتقده دينا يعاقب الله على تركه بالنار، لكان معنى هذا أن تفرض الأقلية ديكتاتورية على الأكثرية، وأن يتحكَّم مثلا خمسة ملايين أو أقلُّ، في سبعين مليونا أو أكثر. وهذا ما لا يقبله منطق ديني ولا علماني.

وهذا على تسليمنا بأن هنا تعارضا بين حقِّ الأكثرية المسلمة وحقِّ الأقلية غير المسلمة، والواقع أنه لا تعارض بينهما.

ترحيب المسيحي لحكم الإسلام لأمرين:

فالمسيحي الذي يقبل أن يُحكَم حكما عِلمانيا لا دينيا، لا يضيره أن يُحكَم حكما إسلاميا. بل المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص على حقيقته، ينبغي أن يرحِّب بحكم الإسلام، لأمرين:

أولا: لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله ورسالات السماء، والجزاء في الآخرة. كما يقوم على تثبيت القِيَم الإيمانية، والمُثُل الأخلاقية، التي دعا إليها الأنبياء جميعا، ثم هو يحترم المسيح وأمه والإنجيل، وينظر إلى أهل الكتاب نظرة خاصة، وإلى النصارى نظرة أخصَّ وأقرب، فكيف يكون هذا الحكم - بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني - مصدر خوف وإزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟ على حين لا يزعجه حكم (لا ديني) علماني يحتقر الأديان جميعا، ولا يسمح بوجودها - إن سمح - إلا في ركن ضيِّق من أركان الحياة؟!

من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام، ونظامه للحياة، فيأخذه على أنه نظام وقانون ككلِّ القوانين والأنظمة، ويأخذه المسلم على أنه دين يُرضي به ربه، ويَتقرَّب به إليه.

ومن الخير للمسيحي - كما قال الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله - أن يأخذه المسلمون على أنه دين، لأن هذه الفكرة تعصمهم من الزلل في تنفيذه، وعين الله الساهرة ترقبهم، لا رهبة الحاكم التي يمكن التخلُّص منها في كثير من الأحيان[2] .

ومن هنا رحَّب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي بوصفه السد المنيع في وجه المادية الملحدة التي تُهدِّد الديانات كلَّها على يد الشيوعية العالمية، كما نقلنا ذلك في بعض كتبنا من كلام العلاَّمة فارس الخوري[3] .

وثانيا: لأن الشريعة الإسلامية وما أقرَّته من فقه على مختلف المذاهب، هي أقرب إلى المسيحين في بلادنا من القوانين المستوردة من أوربا؛ لأن هذه نبتت في غير تربتنا، لعلاج مشاكل غير مشاكلنا، بخلاف الفقه الإسلامي، فهو نابت في أرضنا، أنتجته عقول من بني قومنا.

القوانين الوضعية ليست لها صلة بالمسيحية:

وأودُّ أن أصحِّح هنا خطأ يقع فيه كثيرون، وهو الظنُّ بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية، فهذا خطأ مؤكَّد، والدارسون لأصول القوانين ومصادرها التاريخية يعرفون ذلك جيدا. بل الثابت بلا مِراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحية والمسيحيين في أوطاننا من تلك القوانين، لأصوله الدينية من ناحية، ولتأثُّره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها، كما أشرنا.

هذا بالنسبة للمسيحيين وأمثالهم من اليهود ، أي بالنسبة للكتابيين ، أما غيرهم من أصحاب الديانات الوثنية ، مثل : الهندوسيين والبوذيين والمجوس وغيرهم ، فالأمر بالنظر إليهم أيسر وأسهل ، لأنه يستوي عندهم.

دعوى إرغام غير المسلمين على ما يخالف دينهم:

والادِّعاء بأن سيادة النظام الإسلامي فيه إرغام لغير المسلمين على ما يخالف دينهم: ادِّعاء غير صحيح.

فالإسلام ذو شُعَب أربع: عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة. فأما العقيدة والعبادة فلا يفرضهما الإسلام على أحد، لأنهما جوهر الدين، ولا إكراه في الدين. وفي ذلك نزلت آيتان صريحتان حاسمتان من كتاب الله: إحداهما مكيَّة والأخرى مدنيَّة، في الأولى يقول تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وفي الثانية يقول سبحانه وتعالى في أسلوب جازم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. وجاء عن الصحابة في أهل الذمَّة: اتركوهم وما يدينون[4] .

ومنذ عهد الخلفاء الراشدين، واليهود والنصارى يؤدُّون عباداتهم ويقيمون شعائرهم، في حرية وأمان، كما هو منصوص عليه في العهود التي كُتبت في عهد أبي بكر وعمر، مثل عهد الصلح بين الفاروق وأهل إيلياء (القدس).

ومن شدَّة حساسية الإسلام: أنه لم يفرض الزكاة ولا الجهاد على غير المسلمين، لما لهما من صِبغة دينية، باعتبارهما من عبادات الإسلام الكبرى - مع أن الزكاة ضريبة مالية، والجهاد خدمة عسكرية - وكلَّفهم مقابل ذلك ضريبة أخرى على الرؤوس، أعفى منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين، وهي ما يُسمَّى (الجزية).

وإذا كان بعض الناس يأنف من إطلاق هذا الاسم على ما يدفعونه للدولة، فليسمُّوه ما يشاؤون. فإن نصارى بني تغلب من العرب طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ولا يدفعوا هذه الجزية، وقَبِل منهم عمر، وعقد معهم صلحا على ذلك[5] .

أما شُعبة الأخلاق فهي - في أصولها - لا تختلف بين الأديان السماوية بعضها وبعض.

بقيت شُعبة (الشريعة) بالمعنى الخاص: معنى القانون الذين ينظِّم عَلائق الناس بعضهم ببعض: عَلاقة الفرد بأسرته، وعَلاقته بالمجتمع، وعَلاقته بالدولة، وعَلاقة الدولة بالرعيَّة، وبالدول الأخرى.

فأما العَلاقات الأُسرية فيما يتعلَّق بالزواج والطلاق ونحو ذلك، فهم مخيَّرون فيها بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرعنا، ولا يجبرون على شرع الإسلام.

فمَن اختار منهم تشريع الإسلام وأحكامه في المواريث مثلا - كما في بعض البلاد العربية - فله ذلك، ومَن لم يُرِد فهو وما يختار.

وأما ما عدا ذلك من التشريعات المدنية والتجارية والإدارية ونحوها، فشأنهم في ذلك كشأنهم في أيَّة تشريعات أخرى تُقتبَس من الغرب أو الشرق، وترتضيها الأغلبية.

وبعض المذاهب الإسلامية لا تلزم أهل الذمَّة أو غير المسلمين بالتشريع الجنائي مثل: إقامة الحدود والعقوبات الشرعية، كقطع يد السارق، وجلد الزاني أو القاذف، ونحو ذلك. وإنما فيها التعزير[6] . وتستطيع الدولة الإسلامية الأخذ بهذا المذهب إذا وجدت فيه تحقيق مصلحة، أو درء مفسدة، كما فعلت ذلك جمهورية السودان الإسلامية، بالنسبة للمناطق التي تسكنها أغلبية غير إسلامية. ومن هنا كان لأهل الذمَّة محاكمهم الخاصة يحتكمون إليها إن شاؤوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي، كما سجَّل ذلك التاريخ.

التسامح الإسلامي لا يدانيه تسامح:

وبهذا نرى أن الإسلام لم يجبرهم على ترك أمر يرونه في دينهم واجبا، ولا على فعل أمر يرونه عندهم حراما، ولا على اعتناق أمر ديني لا يرون اعتقاده بمحض اختيارهم. وهو ما يتمنَّاه المسلمون في الغرب أن يطبَّق عليهم مثل هذا النظام، فلا يُجبَرون على أمر يعتقدونه حراما في دينهم مثل: خلع الحجاب للمرأة، وهو واجب عليها شرعا، أو المشاركة في حرب ضد إخوانهم في الدين، لا سيما إذا كانوا مظلومين.

بل في التسامح الإسلامي ما هو أعظم وأوسع، ذلك أن هناك أشياء يحرِّمها الإسلام مثل الخمر والخنزير، وهم يرونها حلالا، والأمر الحلال للإنسان سَعَة في تركه، فللمسيحي أن يَدَع شرب الخمر ولا حرج عليه في دينه، بل لا أظنُّ دينا يشجِّع شرب الخمور، ويبارك حياة السُّكر والعربدة. وكلُّ ما في كتبهم: (أن قليلا من الخمر يصلح المعدة)[7] ، ولهذا اختلف المسيحيون أنفسهم في موقفهم من الخمر والسُّكر.

وكذلك بوسع المسيحي أن يعيش عمره كلَّه ولا يأكل لحم الخنزير، فأكله ليس شعيرة في الدين، ولا سُنَّة من سنن النبيين، بل هو محرَّم في اليهودية قبل الإسلام. ومع هذا نرى جمهرة من فقهاء الإسلام أباحوا لأهل الذمَّة من النصارى أن يأكلوا الخنزير، ويشربوا الخمر، ويتاجروا فيهما فيما بينهم، وفي القرى التي تخصُّهم، على ألا يظهروا ذلك في البيئات الإسلامية، ولا يتحَدَّوا مشاعر المسلمين. وهذه قمَّة في التسامح لا مثيل لها[8] .

جوابي للدكتور جورج إسحاق عن موقع الأقباط عن مشروع الأمة الحضاري:

ومنذ عدَّة سنوات دُعيتُ من قِبَل نقابة الأطباء في مصر لندوة حول (المشروع الحضاري الإسلامي) في (دار الحكمة) بالقاهرة، وكان المفروض أن يشاركني أحد الأساتذة المعروفين[9] ، ولكنه اعتذر، فانفردت بإلقاء الموضوع، وبيان مقوِّمات مشروعنا الحضاري الإسلامي، والذي يعمل على إصلاح الفرد، وإسعاد الأسرة، وترقية المجتمع، وبناء الأمة الفاضلة، وإقامة الدولة العادلة، وإنشاء عالم متعارف وعلاقات إنسانية سويَّة.

وبعد ذلك كانت أسئلة ونقاشات وتعليقات. وكان من أبرز هذه الأسئلة: سؤال من الأخ الدكتور جورج إسحق، الذي سأل بصراحة: أين موقعنا، يا دكتور قرضاوي - نحن الأقباط - في هذا المشروع؟ هل نظلُّ أهل ذمَّة، أو نحن مواطنون؟ هل ستطالبنا بدفع الجزية، أو ندفع ما يدفع المسلمون؟ هل نُحرَم من وظائف الوطن، أو يأخذها مَن يستحقها منا بأهليته؟ إلخ هذا النوع من الأسئلة.

وقلتُ للدكتور إسحاق: إن المشروع الحضاري هو لأهل دار الإسلام جميعا، المسلمين منهم وغير المسلمين، وفقهاء المسلمين متفقون على أن أهل الذمَّة من (أهل الدار)، أي دار الإسلام وإن لم يكونوا من (أهل المِلَّة)، ومعنى أنهم من أهل الدار: أنهم مواطنون، ينتمون إلى الوطن الإسلامي، فهم مسلمون بحكم انتمائهم إلى الدار أو الثقافة والحضارة. وهذا ما عبَّر عنه الزعيم المصري القبطي المعروف مكرم عبيد حين قال: أنا نصراني دينا، مسلم وطنا! وهذا ما قلتُه للدكتور لويس عوض حين زارنا في الدوحة مشاركا في إحدى الندوات، وطُلِب مني أن أعقِّب على الندوة، فقلتُ له: أنا مسلم بمقتضى العقيدة والمِلَّة، وأنت مسلم بمقتضى الثقافة والحضارة.

كلمة (أهل الذمة) ليست فريضة دينية:

وكلمة (الذمَّة) كثيرا ما تُفهم خطأ، ويظنُّ بعض الناس أنها كلمة ذمٍّ أو انتقاص، مع أن معناها: العهد والضمان، أي أنهم في عهد الله ورسوله وجماعة المسلمين، وفي ضمانهم، لا يجوز أن يُنتقض عهدهم، أو تُخفر ذمَّتهم من أحد.

وإذا كانت كلمة (أهل الذمَّة) تؤذي الأقباط وأمثالهم، فإن الله لم يتعبَّدنا بها، وقد حذف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ما هو أهم منها - كما ذكرنا من قبل - وهو كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن، حين طلب بنو تغلب ذلك، وكانوا نصارى عربا[10] .

وفي عصرنا يتأذَّى إخواننا من المسيحيين وغيرهم من هذه التسمية، فلا مبرِّر للإصرار على بقائها، والعبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

جواز أخذ ضريبة من غير المسلمين تساوي فريضة الزكاة:

ولقد ذهبتُ من قديم في كتابي (فقه الزكاة)[11] ، إلى أن ولي الأمر المسلم يجوز له أن يأخذ من غير المسلمين في الدولة الإسلامية ضريبة تساوي فريضة الزكاة، ولنُسمِّها (ضريبة التكافل)، توحيدا للميزانية والإجراءات بين أبناء الوطن الواحد والدار الواحدة. وأيَّدتُ ذلك بأدلَّة شرعية من داخل الفقه الإسلامي، وهذا ما أخذت به جمهورية السودان منذ عهد نميري.

وقد ذكرتُ في (فقه الزكاة)[12] : أن من فقهاء المسلمين عددا أجازوا دفع الزكاة لغير المسلمين، وقد نُقل ذلك عن عمر رضي الله عنه.

مشاركة أهل الكتاب في بناء الحضارة الإسلامية:

ومما يذكره التاريخ أن عناصر من أهل الكتاب أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية أيام ازدهارها، لا تزال أسماء بعضهم معروفة مشهورة.

ولقد وصل بعضهم إلى منصب الوزارة، وهو ما قرَّره القاضي الماوردي وغيره من فقهاء السياسة الشرعية[13] .

والعامل المهم هنا هو: وجود الثقة المتبادَلة بين الفريقين وألا يتطلَّع غير المسلمين إلى المناصب التي لها طبيعة دينية، كما لا يجوز للمسلمين أن يتدخَّلوا في الشؤون الدينية لغير المسلمين، أو يضيِّقوا عليهم فيها بغير حقٍّ.

والأصل العام في التعامل هو هذه القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصَّتهم وعامَّتهم: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. قال ابن عابدين : (فإذا قبلوا دفع الجزية ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ، من الإنصاف (إعطاء الحق) والانتصاف ([14] أي أخذ الحق .

وهذا، فيما عدا ما اقتضاه الاختلاف أو التميُّز الديني بطبيعة الحال لكلٍّ من الطرفين، فهم غير مطالَبين بالصلاة، ولا بالصيام، ولا بزكاة الفطر، ولا بالكفَّارات، ولا بالحج، وغيرها من فرائض الإسلام.

......................

* من كتاب "فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة العلامة، الفصل الثالث من الباب العاشر (2/ 1215 - 1272) ط (4) 2014م ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

[1] وقد تقدم في هذا الكتاب جانب مهم من ذلك في حقوق أهل الذمة أو المواطنين من غير المسلمين ص997 -1027.

[2] من رسالة (دستورنا) للأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام السابق للإخوان المسلمين صـ14، 15، نشر مكتبة المنار بالكويت.

[3] انظر: كلامه في كتابنا (بينات الحل الإسلامي) صـ258 - 261، ورسالتنا (الأقليات الدينية والحل الإسلامي) صـ63، طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة.

[4] انظر: بدائع الصنائع (2/613).

[5] انظر: المغني لابن قدامة (13/207)، ونصب الراية (2/363)، والخراج لأبي يوسف صـ20، وألأموال لأبي عبيد صـ40، والأموال لابن زنجويه (1/131).

[6] استثنى جمهور الفقهاء، من المالكية والحنابلة والشافعية والحنفية في ظاهر الرواية عندهم، الذميين والمستأمنين من عقوبة شرب الخمر؛ لأنهم لا يؤمنون بحرمتها. ويرى أبو حنيفة وصاحبه محمد: عدم إقامة الحدود التي هي محض حق الله تعالى، كحد الزنى، على المستأمن. وكذلك يرى أبو حنيفة ومالك: أن الزاني من أهل الذمة إذا كان متزوجا لا يرجم، لاشتراط الإسلام في تطبيق حد الرجم عندهما. انظر البدائع (7/38)، وحاشية الدسوقي (4/320)، والمنتقى شرح الموطأ (3/331)، والموسوعة الفقهية الكويتية (7/135).

[7] وهو من أقوال بولس، وليس من قول المسيح عليه السلام، انظر: رسالة بولس إلى تيموثاوس (5/23).

[8] انظر: فصل: (الأقليات الدينية والحل الإسلامي) من كتابنا (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين) صـ217 – 251 طبعة مكتبة وهبة القاهرة، وقد نشر في رسالة مستقلة. من (رسائل ترشيد الصحوة)، وانظر أيضا: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) صـ15 طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة.

[9] هو الأستاذ الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط في عهد عبد الناصر، ومن ممثلي الفكر اليساري في مصر.

[10] انظر: كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) صـ216 نشر مكتبة وهبة بالقاهرة.

[11] فقه الزكاة (1/112 – 117) الطبعة الحادية والعشرون نشر مكتبة وهبة. القاهرة

[12] فقه الزكاة (2/712 – 714) نشر مكتبة وهبة، القاهرة.

[13] انظر: الأحكام السلطانية للماوردي صـ16، طبعة الحلبي.

[14] حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار) (3/307) وقرر السرخسي أنهم قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم،  شرح السير الكبير (3/250).

----------( يُتبع )----------