د. يوسف القرضاوي

الجدال بالتي هي أحسن:

الحوار هو المنهج الإسلامي الثابت في علاقة المسلمين بمَن يخالفهم. وهو الذي يعبِّر عنه القرآن بعبارة (الجدال بالتي هي أحسن).

وهذا ما نقرأه بوضوح في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} [النحل:125] والحكمة هي التي تخاطب العقول لتفهم والموعظة هي التي تخاطب القلوب لتتأثَّر. وكلُّ إنسان له عقله الذي يحتاج إلى الحكمة حتى يقتنع، وله قلبه الذي يحتاج إلى الموعظة حتى يتأثَّر.

وأما مع المخالفين، فيشير إليه قوله في الآية: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. اكتفى في الموعظة بأن تكون حسنة، ولم يكتفِ في الجدال إلا أن يكون بالتي هي أحسن. على معنى أنه إذا كانت هناك طريقتان للجدال أو الحوار إحداهما حسنة جيدة، والأخرى أحسن منها وأجود، فالمطلوب أن تستخدم الطريقة التي هي أحسن وأمثل.

والجدال أو الحوار مطلوب مع كلِّ الناس، حتى المشركين الوثنيين، الذين جادلهم القرآن في سور وآيات كثيرة، مستعملا أرقَّ الأساليب، وألين العبارات.

حسن الجدال مع أهل الكتاب:

ولكن القرآن نصَّ على حسن الجدال مع أهل الكتاب خاصَّة، ويعني بهم أهل التوراة والإنجيل، أو اليهود والنصارى، كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَاب إِلَّا بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِين ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِل إِلَيْنَا وَأُنْزِل إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُم وَاحِد وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُون} [العنكبوت:46].

فإذا كانت آية سورة النحل تأمر بجدال المخالفين عامَّة بالتي هي أحسن فهذه الآية في سورة العنكبوت تنهى عن الجدال مع أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن واستثنت من ذلك الذين ظلموا منهم. ومن هنا أقول: لا حوار بيننا وبين اليهود في هذه الآونة؛ لأنهم ظلمونا أبلغ الظلم، وشرَّدوا أهلنا، وغصبوا أرضنا، وانتهكوا حرماتنا وأيُّ ظلم أكبر من هذا الظلم وأقسى؟

موقف القرآن من النصارى أرق من موقفه من اليهود:

وإذا كان القرآن يختصُّ أهل الكتاب عموما بحسن الجدال، أو قُل: بأحسنية الجدال، فإن موقفه من النصارى أرقُّ من موقفه من اليهود، وكلاهما أهل كتاب.

فالقرآن يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاس عَدَاوَةً لِلَّذِين آمَنُوا الْيَهُود وَالَّذِين أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَن مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، ليس بيني وبينه نبي"[1] .

تنويه القرآن بشأن المسيح عليه السلام وكتابه:

وقد نوَّه القرآن بشأن المسيح عليه السلام، وعظَّم من شأنه، بعد أن نفى عنه الألوهية، وأثبت له العبودية، فليس إلها ولا ثلث إله. كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُو الْمَسِيحُ ابْن مَرْيَم وَقَال الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:72، 73].

وقال عزَّ وجلَّ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} [النساء:172].

وقال على لسان المسيح حين نطق في المهد صبيا: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30].

وكذلك أثنى القرآن على كتاب المسيح: الإنجيل كما في قوله سبحانه: {وَآتَيْنَاه الْأِنْجِيل فِيه هُدى وَنُور وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْن يَدَيْه مِن التَّوْرَاة وَهُدى وَمَوْعِظَة لِلْمُتَّقِين} [المائدة:46]

ثناء القرآن على أم المسيح مريم العذراء:

وكذلك أثنى على أم المسيح مريم العذراء، التي نفى عنها الإلهية أيضا، كما قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم إِلَّا رَسُول قَدْ خَلَت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّه صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75].

وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَت الْمَلائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ الله اصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِين} [آل عمران:42].

وقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَان الَّتِي أَحْصَنَت فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيه مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِه وَكَانَت مِنَ الْقَانِتِين} [التحريم:12].

بل وجدنا القرآن خصَّص لها باسمها سورة مستقلَّة، هي سورة (مريم) ولم يجعل ذلك لآمنة بنت وهب أم محمد، ولا لخديجة زوج محمد، ولا لفاطمة بنت محمد، على ما لهما من منزلة وفضل كبير.

بقايا الوحي الإلهي في اليهودية والنصرانية:

صحيح أن الإسلام يعتبر اليهودية والنصرانية قد حُرِّفتا، ودخل في عقيدتهما ما ليس منها، وكذلك كتابا الديانتين: التوراة والإنجيل، ومع هذا يعترف الإسلام بأنهما في الأصل دينان سماويان، وأن كتابيهما نزلا من السماء، وفي كلٍّ منهما بقايا من هدي الوحي الإلهي. وهو ما يكفي لإثبات نسبهما السماوي، وبهذا يعترف الإسلام بأصل الدين، وأصل الكتاب في كلٍّ منهما، وسمَّاهم (أهل الكتاب).

ولأجل هذا شرع الإسلام مؤاكلتهم، بمعنى أكل ذبائحهم، ومصاهرتهم، بمعنى التزوُّج من نسائهم. كما قال سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة:5].

زواج المسلم بالكتابية:

وهذه قمة في التسامح لم ترتقِ إليها الأديان الأخرى: أن يتزوَّج المسلم نصرانية أو يهودية، فتصبح شريكة حياته، وموضع سرِّه، وربَّة بيته، وأمَّ أولاده، وتصبح أمُّها جدَّة لأولادها، وأبوها جدًّا لهم، وأخوتها أخوالا لهم، وأخواتها خالات لهم. لهم حقُّ الأرحام وذوي القربى.

الإسلام دعوة عالمية:

وهذا الحوار لا ينفي دعوة النصارى إلى الإسلام، باعتباره دعوة عالمية، جاءت للبشرية قاطبة، كما أعلن ذلك القرآن منذ العهد المكي بكلِّ صراحة وجلاء، فقال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الإنبياء:107].

وقال في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]. وقال عن القرآن في أكثر من آية: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104، ص:87، القلم:52، التكوير:27].

ولهذا أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام، رسائله إلى قيصر ملك الروم النصراني، وإلى المقوقس عظيم القبط في مصر، وإلى النجاشي في الحبشة، وإلى بعض أمراء الشام ممَّن يدينون بالنصرانية . وكان عليه الصلاة والسلام يختم رسائله بهذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

 كيف تعامل الإسلام مع النصارى خارج دار الإسلام وداخلها؟

وهنا سؤال كبير، وهو: كيف تعامل الإسلام مع النصارى خارج دار الإسلام وداخلها؟ أي مع المواطنين الذين يعيشون داخل المجتمع الإسلامي؟

التعامل مع النصارى خارج دار الإسلام:

فأما النصارى خارج دار الإسلام، فإن رسول الله دعاهم إلى الإسلام، باعتباره جاء متمِّما لدينهم، ومصحِّحا لما حُرِّف منه، وهو يمثِّل اللبنة الأخيرة في بنيان النبوة. ومَن تأمَّل تاريخ الأنبياء والرسل على امتداد التاريخ، تبيَّن له حقيقتان مهمَّتان:

الأولى: أن كلَّ نبي جاء برسالته إلى قومه، يهديهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك به، وإلى أن يقيموا حياتهم وفق منهج الله تعالى، ليقيموا القسط فيما بينهم، ويطهِّروا حياتهم من كلِّ رجس أو دَنَس.

والثانية: أن كلَّ نبي كان يبشِّر بنبيٍّ يأتي من بعده، يتمِّم ما بدأه، ويكمِّل مهمَّته.

ولكن محمدا عليه الصلاة والسلام، خالف في هذين الأمرين كلَّ مَن قبله. فأعلن من أول الأمر وهو في مكة: أنه بُعث للعالمين وأرسل إلى الناس كافَّة. جاء في الحديث المتفق عليه عن جابر : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة"[2].

كما أنه خاتم النبيين، فلا نبي بعده. كما جاء في القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].

وجاء في الحديث: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا وأحسنه، إلا موضع لبنة منه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويتعجَّبون منه، هلاَّ وضعت هذه اللبنة؟ فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم النبيين" [3].

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد اصطدم باليهود مبكِّرا، وخاض معهم معارك، عقب معاركه مع المشركين في بدر وأحد والخندق؛ فلأنهم كانوا يساكنونه في المدينة، وقد عقد معهم المعاهدة المعروفة التي تضمَّنتها (الصحيفة) الشهيرة، ولكنهم سرعان ما نقضوها قبيلة بعد أخرى مما اضطَّر الرسول الكريم أن يتَّخذ موقفه الحازم منهم بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر.

مواجهة النصارى في مؤتة وتبوك:

أما النصارى فقد تأخَّرت مواجهتهم إلى ما بعد الحديبية، وإرسال الرسائل النبوية إليهم، وتعدِّيهم على بعض مَن حمل رسالة الرسول إليهم[4] ، وفتنتهم لبعض مَن أسلم من كبراءهم، مما عجَّل بلقائهم في (مؤتة) على غير تكافؤ في العدد والعُدَّة، واستشهد القواد الثلاثة الذين عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم وتسلَّم القيادة خالد بن الوليد، فأحسن الانسحاب بالجيش الصغير أمام جحافل الروم الهائلة.

ثم كانت غزوة تبوك، التي كانت بادرة حكيمة وحاسمة من النبي صلى الله عليه وسلم، لمواجهة الروم وأتباعهم من قبائل العرب، وقد بلغه أنهم يعدُّون العُدَّة لغزوه في المدينة، فأراد أن يباغتهم قبل أن يباغتوه، ويكون زمام المبادرة بيده هو.

وقد نزل في قتال النصارى آية الجزية من سورة التوبة، وإن لم تذكر اسم النصارى بصراحة، فقد ذكرت أوصافا تدلُّ عليهم، وذلك قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِين لا يُؤمِنُون بِاللَّه وَلا بِالْيَوْم الْآخِر وَلا يُحَرِّمُون مَا حَرَّم الله وَرَسُولُه وَلا يَدِينُون دِين الْحَقّ مِنَ الَّذِين أُوتُوا الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُون} [التوبة:29].

والدليل على أن المقصود هنا هم النصارى، قوله في الآية التالية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْباباً مِنْ دُون الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبدُوا إِلَهاً واحِداً} [التوبة:31].

وهكذا نرى من قراءة السيرة النبوية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يبدأ النصارى بقتال حتى كانوا هم البادئين، وقتلوا مَن قتلوا، وفتنوا مَن فتنوا، وهذه كانت سيرته الدائمة، وسنَّته الثابتة مع مخالفيه، يسالم مَن سالمه، ويحارب مَن حاربه، كما نقلنا ذلك عن الإمامين ابن تيمية وابن القيم في الباب الثالث.

وقد جاء في الحديث: "دعوا الحبشة ما ودعوكم"[5] ، فإذا لم يبدؤوا هم، فلا تبدؤوا أنتم. والحبشة نصارى، كما هو معلوم، وقد لجأ إليهم المسلمون مهاجرين منذ عهد النبوة، وبتوجيه الرسول الكريم، لأنهم كانوا أهل كتاب، ولما عُرف عن ملكهم النجاشي من إقامة العدل في ملكه.

وقتال الرسول والصحابة من بعده للروم، لم يكن لمجرَّد أنهم نصارى، بل لأنهم في الواقع دولة استعمارية - أو إمبريالية بلغة عصرنا - تستكبر في الأرض، وتسوق الشعوب بعصا القهر والجبروت. ولهذا رحَّبت الشعوب النصرانية نفسها - كما في مصر - بالفاتحين المسلمين، واعتبروهم محرِّرين لهم من جَوْر الرومان وقسوتهم عليهم، مع اتفاقهم في الدين.

أما النصرانية المجرَّدة من معاني الاستكبار والاستعلاء في الأرض، فيمكن للإسلام أن يتعايش معها، وأن يكون هناك مجال مشترك للتعاون. وهذا ما قلتُه وأكَّدته في أكثر من مؤتمر للحوار الإسلامي المسيحي، بعضها عُقد في الدوحة، وبعضها عُقد في روما بدعوة وترتيب من جمعية سانت جديو الإيطالية الشهيرة، وبعضها عُقد في القاهرة، وفي غيرها.

مجالات مشتركة للتعاون الإسلامي المسيحي:

ونحن لدينا مجالات مشتركة يمكننا أن نلتقي عليها، ونتفاهم حولها، ونتعاون على توسيعها وتعميقها. وسنجملها في أربعة مجالات أساسية، وهي:

التركيز على القواسم المشتركة:

( 1 ) التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]. ففي مجال التقريب والحوار بالتي هي أحسن: ينبغي ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف.

وهناك من المسلمين المتشدِّدين مَن يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرَّفوا وبدَّلوا كلام الله. وهذا فَهم خاطئ للموقف الإسلامي من القوم. فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟

ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم، وهم نصارى أهل كتاب؟ حتى أنزل الله قرآنا يبشِّر المسلمين بأن الروم سينتصرون في المستقبل القريب: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله } [الروم:4، 5]، كما جاء في أول سورة الروم. وهذا يدلُّ على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين.

التعاون لمواجهة الإلحاد والإباحية:

( 2 ) الوقوف معا لمواجهة أعداء الإيمان الديني، ودعاة الإلحاد في العقيدة، والإباحية في السلوك، من أنصار المادية، ودعاة العري، والتحلُّل الجنسي، والإجهاض والشذوذ الجنسي، وزواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.

فينبغي أن يقف أهل الكتب السماوية في جبهة واحدة، ضدَّ هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضلِّلة، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من أفق الإنسانية إلى درك الحيوانية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:43، 44].

وقد رأينا الأزهر في مصر، ورابطة العالم الإسلامي في مكة، وجمهورية إيران الإسلامية، والفاتيكان في روما: يقفون في (مؤتمر السكان) في القاهرة سنة 1994م، وفي مؤتمر المرأة في بكين سنة 1995م في صفٍّ واحد، لمواجهة دعاة الإباحية.

مناصرة قضايا العدل والشعوب المستضعفة:

( 3 ) الوقوف معا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين في العالم، مثل قضية فلسطين، والبوسنة والهرسك، وكوسوفا، وكشمير، واضطهاد السود والملونين في أمريكا وفي غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين في الأرض بغير الحقِّ، الذين يريدون أن يتَّخذوا عباد الله عبادا لهم.

فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين من أيِّ شعب، ومن أيِّ جنس، ومن أيِّ دين، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه في الجاهلية، وكان حلفا لنصرة المظلومين، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسَرَاتهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "لو دُعيتُ إلى مثله في الإسلام أجبتُ"[6].

إشاعة روح التسامح لا التعصب:

( 4 ) ومما ينبغي أن تتضمَّنه هذه الدعوة: إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل بين أهل الأديان، لا رُوح التعصُّب والقسوة والعنف.

فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدا بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"[7] .

وذمَّ بني إسرائيل بقوله في مخاطبتهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].

وقال لزوجه عائشة: "إن الله يحبُّ الرفق في الأمر كلِّه"[8] .

عقبات في سبيل التفاهم والتعاون مع النصارى وخصوصا الغربيين:

وأودُّ أن أبيِّن هنا: أن هناك عقبات كأداء تقف في سبيل التفاهم والتعاون الحقيقي بين المسلمين والنصارى، لا يجوز لنا أن نُغفلها أو نتغاضى عنها، وأخصُّ هنا نصارى الغرب أكثر من نصارى الشرق الذين يعيشون بين ظهرانينا، وقد عشنا معا تاريخا مشتركا، جمعنا فيه الألم والأمل، وذقنا فيه معا: حلاوة الانتصارات ومرارة الهزائم والنكسات.

( 1 ) التأييد المطلق لإسرائيل:

أول عقبة تقوم في سبيل تفاهمنا مع النصارى ولا سيما الغربيين: وقوفهم الدائم مع الكيان الصهيوني، وانتصارهم المطلق لكلِّ ما تقوم به إسرائيل، وعندنا: أن إسرائيل كيان غريب دخيل، جيء به من بعيد، ليُزرع في غير أرضه، ويفرض على أهل هذه الأرض بالقوة والحديد والدم. فهو مبنيٌ على باطل، وما بُني على الباطل فهو باطل.

وأول مَن يمثل الغرب النصراني أو المسيحي في ذلك، هو أمريكا، التي يحكمها الآن: اليمين المسيحي المتطرِّف، أو المتصهين، أعني: الموالي للصهيونية ومشروعها العدواني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي التوسُّعي. وهو ما يمثِّله بوش وجماعته ومؤيدوه من سياسات همُّها تركيع العرب عامَّة، والفلسطينين خاصَّة، ومحاصرة الحماس الإسلامي لأرض الإسراء والمعراج، وبلد المسجد الأقصى.

واليهود في أوربا وأمريكا يقومون بدور كبير في دعم هذه السياسة وتثبيتها وإحيائها وتوسيع دائرتها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وهو ما يعبَّر عنه باسم (اللوبي اليهودي) أو (اللوبي الصهيوني). وقبل المناصرة والمساندة المطلقة من الغرب النصراني لإسرائيل المعتدية: كان الغرب النصراني نفسه هو الذي بذر البذرة الأولى لقيام إسرائيل في أرض الإسلام، أو ساهم مساهمة إيجابية فعَّالة في هذا السبيل.

ولا ينسى مؤرِّخ أو باحث أو مراقب (وعد بلفور) وزير خارجية بريطانيا في أثناء الحرب العالمية الأولى (2 نوفمبر 1917م) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ودور بريطانيا - في سنوات انتدابها على فلسطين - في تحقيق هذا الوعد، ونقله من مجرد حلم إلى حقيقة واقعة على الأرض وكيف سهَّلت الهجرات الجماعية المنظَّمة إلى أرض فلسطين ويسَّرت شراء الأرض بالحيل والتزوير والطرق الملتوية، وكيف سمحت للعصابات الصهيونية الإرهابية أن تتسلَّح بكلِّ ما تستطيع من أسلحة لضرب الفلسطينيين حين يقفون في وجوههم.

وكيف حرمت أهل فلسطين من تملُّك أيَّ سلاح يذودون به عن أنفسهم. وكيف سكتت عن المذابح الرهيبة التي قامت بها عصابات صهيون لتعمل عملها في إرعاب أهل فلسطين حتى يخرجوا من ديارهم، ويشردوا في آفاق الأرض، ويستمتع اليهود الغرباء القادمون من هنا وهناك بأرض ليست لهم، ودور مالكوها أحياء، يحتفظون معهم بمفاتيحها على أمل أن يعودوا إليها يوما.

حتى قامت دولة إسرائيل المغتصبة، فباركها الغرب النصراني، من أول لحظة، ولا سيما أمريكا التي أخذت على عاتقها حمايتها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه، وفوق ما تحتاج إليه. وأعلن الغرب كلُّه: أن إسرائيل خُلقت لتبقى!

هذه العقبة لا شكَّ أنها عائق كبير في سبيل التقارب مع الغرب النصراني، ولا يُتصوَّر أن تتحسَّن العلاقات معه، وتدخل في مسار إيجابي وعملي، ما دامت هذه العقبة الكؤود باقية حجر عثرة في الطريق.

----------

* من كتاب "فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة العلامة، الفصل الثالث من الباب العاشر (2/ 1215 - 1272) ط (4) 2014م ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

[1] متفق عليه عن أبي هريرة وقد سبق تخريجه ص 1142

[2] متفق عليه عن جابر وقد سبق تخريجه ص 475

[3] متفق عليه: رواه البخاري في المناقب (3535) ومسلم في الفضائل (2286) كما رواه أحمد في المسند (7485) عن أبي هريرة

[4] فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله

[5] رواه أبو داود عن رجل من أصحاب النبي وقد سبق تخريجه ص316

[6] سبق تخريجه ص 899

[7] رواه الحاكم عن أبي هريرة وصححه ووافقه الذهبي وقد سبق تخريجهص 623

[8] متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6024) ومسلم في السلام (2165) كما رواه أحمد في المسند (24090) والترمذي في الاستئذان (2701) والنسائي في عمل اليوم والليلة (10142) وابن ماجه في الأدب (3689 ) عن عائشة

----------( يُتبع )----------