عبد الله بن عمر
تذكرتُ بغتةً صباحي الأول في الدوحة قبل خمسة أعوام، حيث سمعت الشيخ القرضاوي يقص على مجموعة من تلاميذه برنامجه اليومي الذي كان يدور تقريباً بين محورين: منزله ومكتبته الضخمة الملحقة به.
كان يقول إنه بعد أن يأخذ قسطاً من النوم بعد الفجر؛ يفطر ثم يذهب إلى المكتبة، ويظل فيها حتى موعد الغداء، يبحث ويكتب، ويصلي الظهر جماعة مع فريقه، ثم يعود للمنزل ليتغدى ويستريح قليلاً، وبعد العصر يعود لمكتبته ويظل فيها حتى منتصف الليل، ثم يعود إلى منزله لينام، وتتكرر الدورة في اليوم التالي.. وهكذا.
ثم قال الشيخ: إن ثمة فرقاً بين نمط حياة العالِم ونمط حياة الداعية؛ فالعالِم يحتاج إلى العكوف في مكتبته: يقرأ، ويبحث، ويكتب. والداعية تفرض عليه مهمته أن يكون اجتماعياً كثير الحركة، يتنقل بين المحافل والمناسبات والبلدان.
كان القرضاوي يعيش داخل المكتبة، خارج العالم، يُطل على العالم من خلال منبر الجمعة، وشاشة التلفاز، ويحضر بعض المؤتمرات، ولكنه من المكتبة ينطلق، وإليها يعود.
هذه العزلةُ الجزئية في المكتبة، مع العمر المديد، والهمة والانضباط الصارم، أثمرت أكثر من مئة كتاب، لا يزال القرضاوي -وهو في عشر المئة- يضيف إليها المزيد كل حين.
كان القرضاوي يدعو الله في شبابه ألا يهتز القلم في يده حين يتقدم في العمر، حتى يكون بوسعه أن يؤلّف، ولما كانَ كثير السفر جداً، يذرع العالم ذهاباً وجيئةً، كان يبتعد مضطراً عن مكتبته، ولكن مكتبته كانت تسكنه؛ فقد رُزق ذاكرةً أسطورية تضم كنوزاً من نصوص الوحيين كما تضم كثيراً من النصوص العلمية، فكان يكتب في الطائرة، وفي صالات العبور في أثناء ساعات الانتظار، وفي الفندق حيث يقيم، ثم يعود إلى المكتبة فيثبت أرقام الآيات والأحاديث والصفحات ويُحيل ويعزو ويكمل ما لم تسعف به الذاكرة!
هي حياةُ العالِم، داخل المكتبة، خارج العالم.. عزلةٌ محسوبةٌ لا يفقد معها المرء الصِّلة بالعالم، ولكنه ينقطع عنه ليضيف إليه.