د. يوسف القرضاوي
لا تحسبن يا أخي المسلم أن التحقق بالإخلاص أمر يسير، وأنه في متناول اليد لكل من أراد، وأن تحصيله ممكن بأدنى جهد وبلا معاناة ولا مجاهدة، فهذا بعيد عن الحقيقة.
والواقع أن تحقيق الإخلاص ليس بالأمر الهين، كما يظن بعض الذين يتعاملون مع السطوح لا مع الأعماق، ومع القشور لا مع اللباب.
فقد أكد العارفون من سالكي الطريق إلى الله تعالى: صعوبة الإخلاص، ومشقته على أنفس الخلق، إلا على من يسره الله تعالى عليه.
وذلك لأن الإخلاص ـ كما قلنا ـ يتضمن أمرين: استحضار النية، وتحريرها من الشوائب.
أما استحضار النية في العمل، فهو مهم، ولا يكفي أن يؤدي الإنسان العمل "أتوماتيكيا" دون أن تحضره النية وتلونه وتوجهه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات". ويقول: "إنما يبعث الناس على نياتهم".
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له، يعني: من لم يعمل العمل احتسابا لله.
وروى عن ابن مسعود أنه قال: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية.
وقال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد على من نيتي، لأنها تنقلب علي.
وقال زبيد اليامي: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب.
وقال أيضا: انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكناسة.
وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به وإن لم تنصب.
وقال مطرف بن عبدالله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيله.
وقيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض.
وقال عبدالله بن المبارك: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد الله منك نيتك وإرادتك.
وقال بعض السلف: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسنت نيته، حتى باللقمة.
وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل، كما تتعلمون العمل.
وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، ومادمت تنوي الخير فأنت بخير.
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى، فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار، إلا وأنا عامل من عمال الله. فقيل له: قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت ـأو تركتهـ فهم بعمله (أي انوه) فإن الهام بعمل الخير كعامله.
وأما تجريد النفس من أهوائها الظاهرة والخفية، وتصفية النية من الشوائب والرغبات الذاتية والدنيوية، فما أشقه على النفس وما أقساه! فإنه انتصار على الأنانية وحب الذات، وحب الدنيا، وفناء النفس عن حظوظها وأغراضها العاجلة، وإنه ـ لو تعلمون ـ عظيم!
ولهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة للنفس، ومراقبة دائمة لمداخل الشيطان إليها، وتنقية لها من عوامل الدغل والرياء، وحب الجاه والظهور، وحب المنافع الشخصية، وهي عوامل غلابة ذات سلطة وتأثير على النفس البشرية، ولهذا سئل أحد الربانيين، وهو سهل بن عبدالله التستري: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال غيره: تخليص النيات أشد على العاملين من جميع الأعمال.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا والإخلاص، وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت فيه على لون آخر.
بل بالغ بعضهم فقال: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى!!
وقال بعضهم: في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز!
وذلك لغلبة حظوظ النفس على العاملين، وصعوبة التجرد من أهوائها، ولهذا اشترط القرآن خلوص المنافق من نفاقه، وانضمامه إلى قافلة المؤمنين: أن يخلص دينه لله، قال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا"(النساء:145-146)، فلم يكتف منهم بالتوبة، والإصلاح والاعتصام بالله، حتى يخلصوا دينهم لله.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وكان من دعاء مطرف بن عبدالله: اللهم إني استغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه. واستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أف لك به. واستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت!
وقال محمد بن سعيد المروزي: الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه تعالى بك، وفعل منك له، والمطلوب منك في فعله: الرضا بما فعل، وفي فعلك: الإخلاص فيما تعمل، فإذا أنت قد سعدت بهذين، وسعدت في الدارين.
ومن الناس من تراه فتظنه يعمل للإسلام بحرارة وصدق، بل ربما ظن هو نفسه كذلك، فإذا فتشت عن قلبه وسبرت حقيقة نواياه، وجدته طالب دنيا في ثوب صاحب دين، يعمل لنفسه، وهو يوهم غيره ـ وربما يوهم نفسه ـ أنه يعمل لربه!
إن الله لا يقبل القلب المدخول، ولا يقبل العمل المدخول، إنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.
_______
- من كتاب "النية والإخلاص" للعلامة القرضاوي.