د. يوسف القرضاوي
هذه سورة الملك أو سورة تبارك، وتسمَّى: المُنْجية، والواقية، وهي أولى سور الجزء التاسع والعشرين للقرآن الكريم، كما جزَّأه المسلمون بفكرهم وإرادتهم، دون توقيف أو توجيه قرآني أو نبويٍّ؛ ولذا نجد على هذه التجزئة والترْبِيع بعض المآخذ، فأحياناً ينتهي الجزء قبل أن ينتهي الكلام الذي يؤدي معنى مكتملا..
وذلك كما في نهاية جزء (كل الطعام) وهو الجزء الثالث، الذي انتهى بآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ...} إلى آخر الآية التي تقول: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23]. وهنا انتهى الجزء الثالث، وبدأ الجزء الرابع بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...} إلى آخر الآية [النساء:24]. فهذه تكملة للمحرَّمات المذكورة في الآية السابقة، ومع هذا فُصلت عن الجزء السابق، وكنا نودّ لو لم يقعوا في ذلك.
وكثيراً ما يقع ذلك في تربيع الأحزاب، حيث قُسِّم القرآن ثلاثين جزءاً، وقُسم كل جزء إلى حزبين، وقُسم كل حزب إلى أربعة أرباع، تراعي التقسيم الكمِّي فقط، وإن أُهملتْ المعاني، كما نجد في سورة (المؤمنون)، حيث بدأ الربع الثاني بقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]. وهذه الآية تحكي كلمات الكفار المشركين الذين يستبعدون الحياة الآخرة التي كان الرسل يعدونهم بها.
وقد وجدت بعض التفاسير لهذا الجزء (تبارك) خاصة، كتفسير الشيخ عبدالقادر المغربي، نزيل دمشق، الذي خصّ جزء (تبارك) بتفسيره رحمه الله تعالى.
ويتميز هذا الجزء بأن سوره كلها مكية، كما يتميَّز الجزء الثامن والعشرون قبله (جزء قد سمع) أن كل سوره مدنية، وأما جزء (عمَّ) فإنه كله مكيٌّ، إلا سورة البيِّنة والنصر.
بداية تفسير السورة
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ*الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ*ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ*وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}.
السور التي افتتحت بالثناء على الله
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}:بدأت السورة بالثناء على الله عز وجل كما بدأت سورٌ عدة بالثناء عليه سبحانه وتأكيد تمجيده وتعظيمه، وهذا من مقاصد القرآن الأصلية، فأحياناً يكون الثناء والتمجيد بالحمد، كما في أول سورة في القرآن، وهي سورة (الحمد) أو (الفاتحة)، ومعها أربع سور أخرى بدأت بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. وهي سورة (الأنعام): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، وسورة (الكهف): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}
وسورة (سبأ): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، وسورة (فاطر): {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فهي كلها بدأت بالحمد على ما خلق سبحانه في السماوات والأرض، وما أسبغ من نعم ظاهرة وباطنة، وعلى إحكامه للخلق كله، وما أنعم به من أمر وتشريع لصالح خلقه.
وأحياناً يكون الثناء على الله على وجه التسبيح له، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، سواء كان هذا التسبيح بصيغة المصدر، كما في قوله تعالى أول (الإسراء): {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
أو بصيغة الماضي، مثل قوله تعالى في أول سورة (الحديد): {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أو ما جاء في أول سورتي (الحشر) و (الصف): {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أو ما جاء بصيغة المضارع مثل أول (الجمعة) و (التغابن): {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ومنه ما جاء بصيغة الأمر، كما في أول سورة الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.
ومثل ذلك ما جاء بهذه الصيغة التي بدأت بها سورة (الملك)، وبدأت بها قبلُ سورة (الفرقان)، وتكرَّرتْ في هذه السورة وفي غيرها، فذُكرتْ في القرآن تسع مرات، في قوله تعالى في أول الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.
وقال عز وجل بعد ذلك: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]. وفي أواخر السورة: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
كما ذكرت في سورة (الأعراف): {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمر تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. وفي سورة (المؤمنون): {ثم أنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. وفي سورة (غافر): {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]. وفي سورة (الزخرف): {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85]. وفي سورة (الرحمن): {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:78].
فهذه كلها آيات تبيِّن وتؤكِّد الثناء على رب العالمين، وتمجِّده وتعظِّمه لأنه الخالق العظيم الذي كل ما في هذا الكون الكبير، بأرضه وسمائه، وعلويّه وسفليّه، بكائناته ومخلوقاته، خلق الخلق وشرع الشرع. فعظمة خلقه، وسموُّ تشريعاته تدلُّ على العظمة والكبرياء والجبروت، وسَعَة المِلك والمُلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
يتبع