د. يوسف القرضاوي

من لوازم الأخوة ومظاهرها : الوحدة. ومما يضادها وينقضها: الفرقة. فالمجتمع المسلم المتآخي مجتمع واحد، في عقائده الإيمانية، وفي شعائره التعبدية، وفى مفاهيمه الفكرية، وفى فضائله الأخلاقية، وفى اتجاهاته النفسية، وآدابه السلوكية، وفى تقاليده الاجتماعية، وفى قيمه الإنسانية، وفي أسسه التشريعية.

واحد من أهدافه التي تصل الأرض بالسماء, والدنيا بالآخرة، والخلق بالخالق، وفي أسس مناهجه التي تجمع بين المثالية والواقعية، وتزازن بين لالثبات والتطور، وبين استلهام التراث والاستفادة من العصر. واحد في مصادره التي يستمد منها هدايته، وهى القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفى المثل الأعلى الذي يستمد منه الأسوة الحسنة، وهو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم).

فهو مجتمع يؤمن برب واحد، وكتاب واحد، ورسول واحد، ويتجه إلى قبلة واحدة بشعائر واحدة، ويحتكم في كل أموره إلى شريعة واحدة: وولاؤه -حيث كان - ولاء واحد، لله ولرسوله ولأمة الإسلام. في الله يحب، وفيه يبغض، وفيه يصل، وفيه يقطع: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).

لا ينبغي أن يفرق هذا المجتمع ما يفرق المجتمعات الأخرى من العصبية للجنس أو اللون أو الوطن أو اللغة أو الطبقة أو المذهب، أو غير ذلك مما يمزق الجماعات. فالأخوة الإسلامية فوق كل العصبيات أيا كان اسمها ونوعها. والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - برئ من كل العصبيات:( ليس منا من دعا إلى عصية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

والقرآن يحذر من دسائس غير المسلمين الذي يكيدون لهم ليفرقوا كلمتهم، ويمزقوا وحدتهم، كما فعل ذلك اليهود في الإيقاع بين الأوس والخزرج بعد أن جمعهم الله على الإسلام:( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط المستقيم)..إلى أن قال ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).

وفي هذا السياق حذر من التفرق والاختلاف فقال (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم).

وبين آية الأمر بالاعتصام بحبل الله وآية التحذير من التفوق والاختلاف، ذكرت آية تكليف الأمة بالدعوة والأمر والنهي:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) وهذا يدلنا على أن الذي يوحد الأمة ويجمع شتاتها: وجود منهج موحد تعتصم به وترجع إليه، وهو هنا حبل الله: ووجود رسالة مشتركة تشتغل بها، الإسلام والقرآن، وتجعلها أكبر همها، وهي هنا الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

أما إذا قعدت الأمة عن الرسالة، أو ففدت المنهج، فإن السبل ستتفرق بها عن يمين وشمال، والشياطين ستتجاذبها من شرق وغرب، وهو ما حذر منه القرآن بقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) والوحدة المفروضة في الأمة المسلمة لا تعارض النوع الذي يقضيه اختلاف البيئات والأعراف بتأثير الحضارات المختلفة، والمواريث الثقافية المتعددة.

فهو تنوع في إطار الوحدة الجامعة، وهو أشبه بتنوع المواهب والميول والأفكار والتخصصات داخل الأسرة الواحدة.. أو تنوع الأزهار والثمار داخل الحديقة الواحدة : (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل)..

ومن أهم ما جاء به الإسلام هنا: شرعية تعدد الاجتهادات في إطار القواعد الكلية والنصوص القطعية المتفق علها، فلا يجوز أن ينكر مجتهد على مجتهد، وإن اختلف معه في المشرب، ولكل وجهته، ولكل أجره، أصاب أم أخطأ، ما دام من أهل الاجتهاد، واختلاف الآراء لا يجوز أن يكون سبب تفرق أو عداوة..

فقد اختلف الصحابة وتابعوهم بإحسان في قضايا كثيرة، ولم يزدهم ذلك إلى التفرق، بل وسع بعضهم بعضاً، وصلى بعضهم وراء بعض. ومما يضيق الخلاف أن أمر الإمام أو حاكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف، ويحسم النزاع من الناحية العملية.

.............

* من كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.