د. يوسف القرضاوي
يقول بعض الناس: إن تفرق الأمة أمر لازم فرضه القدر وأخبر به الشرع فلا مناص منه، ولا مهرب منه.
يدل لذلك:
1. ما جاء من أحاديث تكاثرت واستفاضت تنبئ بأن الله تعالى جعل بأس هذه الأمة بينها.
2. حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
معنى جعل بأس هذه الأمة يبنها:
أما أحاديث جعل هذه الأمة بأسها بينها، وتسليط بعضها على بعض، فهي أحاديث صحيحة مستفيضة رويت عن عدد من الصحابة، منهم سعد بن أبي وقاص وثوبان، وجابر بن عتيك، وأنس بن مالك، وحذيفة ومعاذ بن جبل، وخباب بن الأرت، وشداد بن أوس، وخالد الخزاعي، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس وأبي هريرة.
وقد ذكر هذه الأحاديث الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍَ) (سورة الأنعام: 65).
واكتفي من هذه الأحاديث بثلاثة:
ما رواه أحمد ومسلم عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة أعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".
وروى الإمام أحمد وغيره عن خباب بن الأرت: راقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، فقلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنها صلاة رغب ورهب! سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها".فروى مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها.." الحديث.
والأحاديث المذكورة ـ وما في معناها مما لم نذكره ـ واضحة الدلالة على المراد، وهو أن الله تعالى ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمته أمرين كرامة له عليه الصلاة والسلام، وأجاب دعوته فيهما:
الأول: أن لا يهلكها بما أهلك به الأمم السابقة بمثل الغرق الذي أهلك الله به القوم نوح، أو فرعون وجنوده، أو بالسنين أي المجاعات الماحقة التي تهلك بها الأمة كافة، أو بغير ذلك من الرجم من فوقهم أو الخسف من تحت أرجلهم.
الثاني: أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، يسلط عليهم بحيث يستبيح بيصتهم ويستأصل شأفتهم، ويقضي على وجودهم.
ولكن أمرا آخر طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، فلم يجب إليه ولم يضمنه له، وهو: أن لا يلبس هذه الأمة شيعا، ولا يجعل بأسها بينها، فلم يجب الله سبحانه لرسوله الكريم هذا السؤال، وتركه للسنن الكونية والاجتماعية، ولشبكة الأسباب والمسببات.
فالأمة هنا هي مالكة أمر نفسها، لم يجبرها الله على شيء، ولم يخصها ـ في هذا المجال ـ بشيء، فإذا هي استجابت لأمر ربها، وتوجيه نبيها، ودعوة كتابها، ووحدت كلمتها، وجمعتصفها، عزت وسادت وانتصرت على عدو الله وعدوها، وحققت ما يرجوه الإسلام منها، وإن هي استجابت لدعوات الشياطين، وأهواء الأنفس تفرقت بها السبل، وسلط عليها أعداؤها، من خلال تفرقها، وتمزق صفوفها، كما أشار إلى ذلك الحديث "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا".
والحديث لا يعني بحال أن يكون تفرق الأمة وتسلط بعضها على بعض أمرا لازما، ودائما وعاما، يشمل كل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل الأحوال إلى يوم القيامة.
وإلا لم يكن هناك معنى لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103).
ولا لقوله عز وجل: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105).
ولا لقوله سبحانه: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (سورة الأنفال: 46).
ولا لقوله جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (سورة الصف: 4).
ولا لقوله عز من قائل: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (سورة الروم: 31-32).
ولا لقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (سورة المؤمنين: 52).
ولا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
ولا لقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وقوله: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
وقوله: "لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا".
إلى غير ذلك من نصوص القرآن والحديث التي أمرت بالاتحاد والائتلاف، ونهت عن التفرق والاختلاف والتي أوجبت على المسلمين أن يكون لهم إمام واحد، وأن لا يبايعوا لخليفتين في وقت واحد، وأن يقاوموا من يريد أن يفرق كلمتهم وأمرهم جميع.. الخ.
ولو كان التفرق قدرا مفروضا على الأمة بصورة عامة ودائمة لكانت هذه الأوامر والنواهي عبثا، لأنها تأمر بما لا يمكن وقوعه، وتنهى عما يستحيل اجتنابه.
والأحاديث التي أخبرت بأن الله لم يسلط على الأمة عدوا من غيرها يقوض بنيانها، ويأتي عليه من القواعد، وإنما تركها لأنفسها، وجعل بأسها بينها ـ لم تخبر بأن هذا أمر واقع في كل بقعة من أرض الإسلام، وفي كل عصر من العصور.
إنما هو داء وبيل تصاب به الأمة كلما تهيأت أسبابه، ولم تتحصن منه بما ينبغي، كما يصاب الفرد بالمرض إذا أهمل الوقاية، أو قصر في العلاج.
وقد يقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وبين قوم معينين دون غيرهم، ويكفي مثل هذا ليصدق الخبر النبوي.
وقد جاء في بعض الأحاديث، أن جعل بأس الأمة بينها يكون عقوبة من الله لها على انحرافها عن شرعه وكتابه، ولا سيما أئمتها ورؤساؤها. كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم".
على أن ما أنذرت به الأحاديث المذكورة من جعل بأس الأمة بينها يمكن أن يفسر بما وقع بالفعل في بعض الأزمنة السابقة، كما وقع في عهد الصحابة أنفسهم من الفتن، وما وقع في عهود من بعدهم، في العصر الأموي ثم في العصر العباسي، مما مهد لدخول الصليبيين من الغرب، والتتار من الشرق، إلى دار الإسلام، والسيطرة على أجزاء منها مدة من الزمان.
وقد بشرت أحاديث أخرى بأن الإسلام ستعلو كلمته، وأنه سيدخل أوروبا مرة أخرى، بعد أن طرد منها مرتين، وأنه سيفتح (رومية) كما فتح من قبل (القسطنطينية) وأنه لا يبقى بيت مدر أو وبر إلا أدخله الله هذا الدين، الذي سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ومعلوم أن هذا كله لا يمكن أن يتم والأمة ممزقة يضرب بعضها رقاب بعض، إنما يتم ذلك حين تتوحد الكلمة على الإسلام، وتمضي الأمة تحت راية الإيمان.
..............
* من كتاب "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" لفضيلة الشيخ.