د. يوسف القرضاوي 

شمول التعاليم الإسلامية:

وإذا كان الإسلام هو رسالة الإنسان كله في كل أطواره، ورسالة الحياة كلها، بكل جوانبها ومجالاتها، فلا عجب أن نجد التعاليم الإسلامية كلها تتميز بهذا الشمول والاستيعاب لكل شؤون الحياة والإنسان. نجد هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور.

ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم. شمول العقيدة الإسلامية: فالعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها.

أ ـ فهي توصف بالشمول، باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى، في هذا الوجود، القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديماً وحديثاً، قضية الألوهية... قضية الكون... قضية الإنسان... قضية النبوة... قضية المصير والجزاء.

فإذا كانت بعض العقائد تعني بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة، دون قضية الجزاء الأخروي، فإن عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح ووضح شامل.

ب ـ وتوصف بالعقيدة الإسلامية بالشمول كذلك ؛ لأنها لا تجزئ بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة، كما كان في المجوسية، أو بين الله والشيطان الذي سمي في الأناجيل باسم رئيس هذا العالم، واسم إله الدهر، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا، ولله ملكوت السموات، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعاً لعمل "أهريمان" إله الظلام في المجوسية.

إن الشيطان في نظر الإسلام، يمثل قوَّة الشر لا مراء، ولكنها قوة لا سلطان لها على ضمير الإنسان، إلا سلطان الوسوسة والإغراء والدعوة إلى الشر وتزيينه في الأنفس، فهذا مبلغ كيده وجهده، وهو كيد ضعيف أمام يقين المؤمنين المعتصمين بالله المتوكلين عليه.

يقول الله تعالى، على لسان الشيطان نفسه في مخاطبة من أغواهم: [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي] {إبراهيم:22}. ويقول سبحانه في مخاطبة الشيطان:[إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ] {الإسراء:65}. ويقول: [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] {النحل:100} . ويقول: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] {النساء:76}.

ج ـ وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول من ناحية أخرى وهي: أنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضاً باتاً، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: أعتقد وأنت أعمى!.

وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو شأن جل الفلسفات البشرية التي تتخذ العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله وحل ألغاز الوجود. وإنما تعتمد على الفكر والشعور معاً أو العقل والقلب جميعاً، باعتبارها أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.

إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة. ويوم أصبح "علم التوحيد" في الإسلام علماً عقلياً بحتاً، يقوم على الجدل حتى سمي "علم الكلام" أنكره كثير من أئمة الإسلام، لأن فعل هذا الجدل وحده لا يكون الإيمان الإسلامي.

وبانتشار هذا اللون من المعرفة العقلية الجافة وجد فراغ عاطفي وروحي، هيأ لظهور فئة أخرى تقوم بملئه على طريقتها، وهي "الصوفية".

والحق أن "علم الكلام" إنما يجدي في مجال واحد وهو مجادلة خصوم العقيدة ودفع الشبهات والأباطيل عنها، أما تكوينها وإثباتها من الأساس فلا يكفي.

د ـ وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول أيضاً، لأنها عقيدة لا تقبل التجزئة، لابدَّ أن تؤخذ بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك في أي جزء منها، فمن آمن بـ 99% من مضمون هذه العقيدة، وكفر بـ 1% لم يعد بذلك مسلماً.

فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قياده كله لله تعالى، ويؤمن بكل ما جاء من عنده. لا يجوز في نظر العقيدة الإسلامية أن يقول مسلم: أنا مؤمن بالقرآن الكريم في شأن الشعائر والعبادات ـ مثلاً ـ ولكن لا أؤمن بما جاء في شأن الأخلاق والآداب أو يقول: آخذ من القرآن العبادة والأخلاق، ولكن لا أستمد منه النظام والتشريع، أو آخذ منه ذلك كله، ولكن لا أصدقه في كل ما يرويه من أحداث التاريخ، أو أصدقه وأسلم له في كل ما ذكرنا ولكن لا أعتقد بحقيقة ما جاء في وصف الآخرة، وحقيقة الجنة والنار.

ومن ثم أنكر القرآن الكريم أشد الإنكار على بني إسرائيل إيمانهم ببعض الرسل دون بعض، وببعض الكتاب الإلهي دون بعض، يقول تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150) أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151) ]. {النساء}.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

...............

* المصدر: مجلة الأزهر، السنة 48، ذو القعدة 1396، الجزء 9.

* الإسلام دعوة شاملة كاملة (2/1)