د. يوسف القرضاوي
ثمرة التوكل هنا: أن المتوكل على الله حين يُقدِّم من الأسباب -التي أُمِرَ بها- ما يقدر عليه، ويدخل في وسعه، تُكمل له القدرة الإلهية العليا ما يعجز عنه، ولا يدخل في وسعه.
انظر إلى موسى عليه السلام، وقد أوحى الله إليه: (فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون) (الدخان: 23)، فخرج بقومه في جنح الليل، فارين من فرعون وملئه، متجهين ناحية البحر، والظاهر أنه خليج السويس. وشعر فرعون وجنوده بخروجهم، فاتبعوهم مشرقين، يريدون أن يفتكوا بهم فهم يملكون العَدد والعُدد، مع الغيظ والغضب: (إن هؤلاء لشرذمةٌ قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنَّا لجميعٌ حاذرون) (الشعراء: 54 - 56)، (فلما ترآء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا، إن معي ربي سيهدين) (الشعراء: 61، 62).
لقد نظر أصحاب موسى إلى الأسباب وحدها، فقالوا: (إنا لمدركون). سيدركنا فرعون وجنوده، وينكّلون بنا، ولا طاقة لنا بهم، ولا نجاة لنا منهم، فالبحر أمامنا، وهم من خلفنا!
ولكن كليم الله موسى لم يقف عند ظواهر الأسباب، بل رنا ببصيرته إلى ما هو أعلى منها، إلى خالق الأسباب، وواضع السُنن، ومدبر الأمر كله.
لقد فعل موسى ما أُمِرَ به وما قدر عليه، وبقي ما لا يقدر عليه، ولا حيلة له فيه، ولكنه كان موقناً أن الله معه، ولن يتخلى عنه، وسيهديه إلى حل ينقذه ومن معه، لا يعرف ما هو، إلا أنه مستيقن من وقوعه.
وكيف لا، وقد قال الله له منذ أرسله وأخاه هارون إلى فرعون (لا تخافا، إنني معكما أسمع وأرى) (طه: 46). لا عجب أن قال موسى بكل اطمئنان: ( إن معي ربي سيهدين ) (الشعراء: 62).
وقد هداه الله إلى المخرج من المأزق بأمر لم يكن في حسبانه، ولا في حسبان أحد: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم * وأزلفنا ثَمِّ الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآيةً) (الشعراء: 63 - 67).
هذه هي ثمرة التوكل إذا انقطعت الأسباب.
وانظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، كيف أخذ بكل الأسباب الممكنة للبشر، خطَّط فأحكم التخطيط، ورتب فأحسن الترتيب، وأعدَّ لكل أمر عُدته المناسبة، هيأ من يبيت في فراشه (علي بن أبي طالب)، ومن يرافقه في رحلته (أبا بكر الصِّدِّيق)، ومن يدله على الطريق (عبد الله بن أريقط)، واختار الغار الذي يختفي فيه أياماً حتى يهدأ الطلب عنه (غار ثور)، ولم يختره ناحية يثرب تعمية على القوم، وهيأ من يأتي له بالزاد والأخبار (أسماء بنت أبي بكر)، ومن يعفى على آثارها بغنمه بعد رجوعها (عامر بن فهيرة).
ومع هذا كله استطاع القوم أن يصلوا إلى الغار، وأن يتوقفوا عنده، وهو ما جعل أبا بكر رضي الله عنه يقول مشفقا على مصير الدعوة إن مسَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء: يا رسول الله؛ لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (يا أبا بكر؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؟ أو كما قال الله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا) (التوبة: 40).
لقد فعل الرسول الكريم ما قدر عليه، وبقي ما لم يقدر عليه، فتركه لربه وراعيه، يدبره بما يشاء من الأسباب الخفية، أو بغير الأسباب أصلاً إن شاء: (فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيزٌ حكيم) (التوبة: 40).
لقد كان الزمن الذي بين الكليم موسى والحبيب محمد -عليهما الصلاة والسلام- زمناً طويلا امتد قروناً، ولكن الموقفين متشابهان، وتكاد العبارات تتفق بينهما؛ عبارة موسى: (إن معي ربي سيهدين)، وعبارة محمد: (إن الله معنا)، ولا غرو، فهما يصدران من مشكاة واحدة.
بَيْد أن الله أنجى موسى بآية حِسِّية منظورة هي "العصا"، وأيَّد محمداً بجنود غير مرئية، نظراً لأن الآيات التي أيَّد الله بها موسى كانت مادية حِسِّية ملائمة لتلك المرحلة في أطوار البشرية، والآية الكبرى التي أيَّد بها محمداً صاحب الرسالة الخاتمة كانت آية معنوية أدبية هي: القرآن الكريم.
وفي غزوة بدر خرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة المشركين، وإن كانوا أكثر عدداً، وأكثر عُدةً، وأعظم غروراً، ولكن ذلك لم يضعف من عزمه، وفعل ما أمكنه فعله من إحكام وتدبير، بعد الاستشارة والاستنارة، ثم ترك ما بعد ذلك لصاحب الأمر، فأيدهم بألفٍ من الملائكة مردفين، وغشاهم النعاس أمنة منه، ونزَّل عليهم من السماء ماءً ليطهرهم به، وليربط على قلوبهم، ويثبت به الأقدام.. ونصرهم الله ببدر وهم أذلة: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن اللهرمى) (الأنفال: 17).
وفي غزوة الأحزاب، تجمع المشركون لغزو المسلمين في عقر دارهم: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنوناْ * هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً) (الأحزاب: 10، 11).
لقد حفر الرسول الخندق حول المدينة لتعويق المغيرين، وبات هو وأصحابه ليالي عدة في كرب شديد، ونقض يهود بني قريظة العهد، ووقفوا في صف المهاجمين. وهنا لم يكن أمام الرسول والمؤمنين إلا التوكل على ربهم والاستغاثة به: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم).
وهنا تجيء ثمرة التوكل: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها) (الأحزاب: 9) (وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً) (الأحزاب: 25).
ــــــــ
- من كتاب "التوكل" للشيخ القرضاوي.