د. يوسف القرضاوي
يعتقد كثير من الغيورين من أهل العلم والفكر، أن الذي ينقصنا لكي نسعد ونرقى أفراداً وجماعات، إنما هو التقدم العلمي والتكنولوجي، الذي يساعد مجتمعاتنا على أن تنمو وتتطور، وتلحق بركب العالم المتحضر، الذي حطم الذرة، وغزا الفضاء، وصنع "الكومبيوتر" وأصبح على أبواب ثورة بيولوجية لا ندري ماذا تصنع بالإنسان.
ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن ديننا لا يضيق بالدعوة إلى العلم والتقدم، كما قد يتوهم الذين لا يعرفون الإسلام ويريدون أن يُجْروا عليه ما جرى على الأديان الأخرى.
ونحن نعتبر التقدم العلمي وما يثمره في الحياة من استخدامات تكنولوجية نافعة -تيسر على الإنسان حياته، وتوفر عليه جهده البدني والعقلي- عبادة بالنسبة للفرد المسلم، يتقرب بمعرفتها وإتقانها إلى ربه، كما يتقرب بالصلاة والصيام، وهي -بالنسبة للمجتمع- فريضة كفائية يأثم المجتمع كله إذا لم يقم من أبنائه عدد كاف يسد كل الثغرات، ويلبي كل الحاجات، التي يتطلبها المجتمع في كل مجالاته المدنية والعسكرية.
ولكن الذي نؤكده هنا هو حاجة مجتمعاتنا -وكل المجتمعات البشرية- إلى العلم والإيمان جميعاً، فالإنسان جسم وروح، وعقل وقلب، ولا بد من رعايته كله، وإمداده بما يغذي كل جوانبه وطاقاته، مما ينبت من الأرض، ومما ينزل من السماء. وهذا هو التوازن أو التكامل الذي تميز به الإسلام.
فمن مظاهر التكامل في نظام الإسلام أن التقى به العلم والإيمان جنباً إلى جنب ولم يقم في مجتمعه ما قام في المجتمعات الأخرى من نزاع بين العلم والدين، راح ضحيته الألوف من أهل العلم والفكر ومن رأى رأيهم أو سار على دربهم.. وتاريخ أوربا في العصور الوسطى حافل بالمجازر البشرية الرهيبة التي سيق إليها العلماء والدارسون في ظل محاكم التفتيش وغيرها.
وقد حكي الشيخ محمد عبده في كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدينة"، جملاً من هذه الوقائع تقشعر لمجرد ذكرها الجلود، وتستنكرها في عصرنا أدنى العقول.
إن الشيء الذي تميز به الإسلام من غيره هو احترامه للعقل، ودعوته إلى النظر والتفكير، وحثه على العلم والتعلم وإشادته بالعلماء وأصحاب العقول، وحملته على الجمود والجهل، وتمجيده للقراءة والكتابة والقلم، منذ أول آيات أنزلت من القرآن.
لم يقل في الإسلام ما قيل في أديان سابقة من مثل: "اعتقد وأنت أعمى" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني" أو "الجهالة أم التقوى"!! بل قرر من يعتد بهم من علماء المسلمين: "أن إيمان المقلد لا يُقبل" . ولا عجب أنْ طالَب القرآن المشركين وأمثالهم من أصحاب العقائد الباطلة بقوله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقال في شأنهم: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.
لقد شاع في تاريخ الكنيسة الغربية طوال العصور الوسطى عندهم: أن العقل ضد الوحي، وأن العلم عدو الدين، وأن الفكر خصم الإيمان، وأن الشريعة نقيض الحكمة. أما الإسلام فلم يعرف هذه المشكلة، فالعقل والوحي عنده أثران من آثار الألوهية، لا يتعارضان ولا يتناقضان؛ ولهذا نرى الوحي يمجد العقل، ويحث على الانتفاع به، ونرى العقل هو الدليل على صدق الوحي، وهو الأداة لفهمه وشرحه.
ومن هنا قرر المحققون من أئمة الإسلام: أنه لا تعارض أبداً بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وما ظنه بعض الناس من تعارض؛ فلا بد أنه نتيجة خطأ في فهم ما هو من العقل أو ما هو من الدين.
ولقد مضت أربعة عشر قرناً على نزول القرآن الكريم، نشأ فيها كثير من المعارف والأفكار، ورغم هذا لم تخالف آية من آياته حقيقة ثابتة؛ وهذا من دلائل الإعجاز في هذا الكتاب العظيم.
ومع أن القرآن ليس كتاب "علم" بالمعني الاصطلاحي للعلم الآن، فقد تضمن إشارات كثيرة إلى حقائق علمية، لم تكن تخطر على بال أحد في عصر نزوله ولا بعد عصره بقرون، وألفت في ذلك كتب كثيرة كشفت عن لون جديد من إعجاز القرآن، يمكن تسميته "الإعجاز العلمي".
وأكثر من ذلك أن القرآن ينشئ بتعاليمه "العقلية العلمية" التي تنكر الخرافة، وترفض اتباع الظنون والأهواء، وتستعصي على التبعية والتقليد، وتؤمن بالبرهان في العقليات، وتعتمد على الملاحظة والتجربة في الماديات، وتعتقد أن العقل نعمة مُنحها الإنسان، لينظر بها، ويفكر في الانتفاع بالكون وما فيه والاستفادة من سير التاريخ , وما يجري فيه من سنن الله لا تتبدل.
ففيه آيات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} و{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} و {لِّأُولِي الأَلْبَابِ} و{لِّأُولِي النُّهَى}.
ويشيد القرآن بالعلماء في آيات كثيرة من سوره: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}. ويجعلهم وحدهم أهلا لخشية الله ومخافته : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}. وقد ذكر القرآن العلماء هنا بعد ذكر السماء والماء والنبات والجبال والحيوان والإنسان؛ مما يشير إلى أن العلماء هم الراسخون في العلوم الكونية والحيوية وما يتعلق بها، فإن علمهم هذا يعرّفهم بقدر الله عز وجل، وعظيم نعمته، وواسع رحمته.
وذكر القرآن من قصص النبيين والصالحين ما يلفت الأنظار -بقوة- إلى قيمة العلم ومنزلته، في إعانة الإنسان على وظيفته في خلافة الله في الأرض واستخدامه في كثير من الأمور النافعة. كما في قصة سيدنا آدم وتفوقه على الملائكة بالعلم. وقصة سيدنا يوسف، وتدبيره أمر مصر في المجاعة بالعلم، وقصة سيدنا سليمان وإحضاره عرش بلقيس بالعلم، وغيرها من قصص النبيين والمؤمنين.
العلم لا يغني بغير الإيمان
ومع هذا فليس العقل كل شيء في الإنسان، ولا العلم كل شيء في الحياة.
إن العقل له ميدانه الذي لا يتجاوزه، والعلم له مجاله الذي لا يتعداه، وبعد ذلك يقف العقل والعلم حائرين. فسرّ الوجود، وغاية الحياة، ومبدأ الكون ومصيره، وقضية الموت والحياة، وما يتصل بذلك من قضايا الوجود الكبرى، لا يستطيع العقل أن يدركها وحده، ولا يستطيع العلم أن يمد إليها سلطانه؛ لأن سلطانه فيما يخضع للملاحظة والتجربة، أي في الماديات والمحسوسات.
فكان لا بد من معرفة أخرى تنبع من مصدر آخر لتحديد مركز الإنسان وغايته، ومهمته في هذه الأرض، وعلاقته بالكون والحياة، وخالق الكون والحياة، وليس هذا المصدر إلا الوحي الإلهي. ولا سبيل إلى التلقى عنه إلا بالإيمان. وقد حاول بعض مفكري البشر في مختلف العصور أن يصلوا إلى الحقائق الكبرى بعقولهم، وأن يحلوا مشكلات الوجود بأفكارهم، فلم يستطيعوا، وخرجوا بنتائج متناقضة، لا يطمئن بها القلب، ولا تستقيم بها الحياة. إن الإيمان وحده هو الطريق المأمون.
إن الإيمان هو الذي يفسر قضايا الوجود الكبرى، ويصل الإنسان بالوجود الكبير وبالأزل والأبد، ويجعل لحياته طعماً وهدفاً ورسالة.
وهو -مع ذلك- الذي يعصم العلم من الانحراف، ويحول دون استخدامه في الشر والعدوان، ولهذا رأينا سليمان حين أُحضِر إليه عرش بلقيس بواسطة {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} يُرجع الفضل إلى الله ولا يطغى أو يغتر، بل قال ما قصه القرآن: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
وفي قصة ذي القرنين بعد أن أتم بناء السد، يقول في تواضع المؤمنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.
ورأينا العلم الذي قام بتوجيه الإيمان في ظل الحضارة الإسلامية يبني ويعمر، ويعمل لخدمة الإنسان، وتزكية الإنسان، وإسعاد الإنسان.
ورأينا حين قام العلم في الغرب -لظروفه التاريخية مع الكنيسة- بعيداً عن هدى الله، مقطوعاً عن الإيمان بالله، كانت نتيجته الأسلحة الكيماوية والجرثومية وآلات الفتك والدمار، التي جعلت البشرية تبيت على أحلام مزعجة، وتصحو على مخاوف مفزعة، لقد أعطاها العلم الوسائل، ولكنه لم يحقق لها السكينة النفسية. انتصرت به على الطبيعة، ولكن لم تنتصر به على نفسها وشهواتها.
ومن هنا كان لا بد من إيمان العلماء، وعلم المؤمنين. وهذا ما تقوم عليه الحياة الإسلامية المتكاملة.
ولهذا جمعت أول آية نزلت من القرآن بين العلم والإيمان، وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فالقراءة -وهي مفتاح العلم- إنما يريدها الإسلام قراءة باسم الله الخالق، وإذا كان مفتاح الإسلام هو العلم والفهم، فإن جوهر الإسلام هو الإيمان، وجوهر الإيمان هو التوحيد. بل هو جوهر الرسالات السماوية كلها؛ ولهذا كان النداء الأول في كل رسالة: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
مكانة الإيمان من حياة الإنسان
إن حقيقة الدين ومهمة الإيمان تتجلى:
أولاً : في وصل ما بين الإنسان وربه، وإشعاره بقربه وحبه، وملء ما بين جنبيه ثقة به، واعتماداً عليه، واطمئناناً إليه، وأنساً به، ويقينا بكل ما جاء من عنده.
وتتمثل ثانياً : في الارتفاع بقيمة الإنسان من مجرد "حيوان متطور" كما تصوره أو صوره بعض الناس، إلى كائن مكرم مكلف مسئول، مخلوق في صورة الخالق، مخلوق في أحسن تقويم، مستخلف في الأرض، مغبوط من الملأ الأعلى، فلا غرو أن يعمل الدين على إعلاء "نفحة الروح الإلهي" في كيانه على "قبضة الطين والحمأ المسنون" فيه. وبذلك لا يعيش الإنسان مشدوداً إلى أسفل.. إلى المتاع الأدنى، بل يحيا دائماً مشرئباً متطلعاً إلى الأفق الأعلى.
وتتمثل ثالثاً: في توسيع صلته بالكون العريض من حوله، فهو ليس كائناً طفيلياً في هذا الوجود الكبير، ولا هو -أي الكون- بالعدو الذي يصارعه، أو المجهول الذي يطارده، بل هذا الكون كله مسخر لمنفعته، وهو كذلك آية تدله على ربه. كما أن الناس -كل الناس فيه- إخوة له، يشاركونه في العبودية الله، والبنوة لآدم.
وتتمثل رابعاً: في مد عمر هذا الوجود إلى ما بعد هذه الحياة القصيرة الأمد، أي إلى حياة الخلود والأبد، فليست قصة البشرية مجرد "أرحام تدفع، وأرض تبلع" أو كما قال قوم {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، بل الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز: "إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون بالموت من دار إلى دار". وهذه المعاني كلها، إنما ينشئها ويحييها الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وهما ركنان أساسيان في كل دين.
خفوت صوت الإيمان في عصرنا
ولا يخفى أن جمرة الإيمان في هذا العصر، قد فقدت كثيرا من توهجها واشتعالها في القلوب، وأن صوت الإيمان قد خفت في حنايا الضمائر، ولم يعد له من السلطان والتأثير ما كان من قبل.
ويرجع ذلك إلى جملة أسباب منها:
غلبة التفكير المادي والحياة المادية على جمهور الناس، في أنحاء العالم، نتيجة لسيطرة الحضارة الغربية. وانتقل ذلك بالعدوى والاختلاط وأجهزة التأثير المختلفة، من الغرب إلى الشرق، ومن غير المسلمين إلى المسلمين. وألهى الناس التكاثر، حتى كادوا ينسون أن بعد الحياة موتاً، وبعد الموت بعثاً، وبعد البعث حساباً، وبعد الحساب ثواباً وعقاباً، وجنة وناراً.
- يتبع ذلك اهتمام جمهور الناس بالعلوم الوضعية والمادية، وما ينبثق عنها من استخدامات تطبيقية (تكنولوجية) ساعدت الناس على الاستغراق والاستمتاع بالحياة، على حين قل الاهتمام بعلوم الدين، وما تشتمل عليه من "غيبيات" لا يألفها كثيراً العقل المعاصر، حتى إن بعض علماء الدين ودعاته، يحاولون تأويلها بما يرضي نزعته الحسية، أو يهربون من الحديث عنها، حتى إن الذي يتابع الاستماع إلى خطب الجمع في المساجد أو من المذياع، لا يكاد يجد خطبة منها تتحدث عن الموت أو القبر أو البعث والحساب، أو الجنة والنار، كأن هذا من دلائل التخلف والمنافاة للعصرية!
- اهتمام الدعاة إلى الإسلام في العقود الأخيرة من سني القرن الرابع عشر، بالتركيز على عرض النظام الإسلامي، وبيان محاسنه، والدعوة إلى تطبيقه، ولم تعط أهمية مماثلة لعرض العقيدة والدعوة إليها، وتعميق أثرها في العقول والقلوب، نظراً لظهور الفكر العلماني الذي يعتبر الدين -كل دين- مجرد صلة خاصة بين المرء وربه، ولا علاقة له بنظام الحياة، فاقتضي الرد عليه التأكيد والتركيز على النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتشريعي في الإسلام، دون أن تأخذ العقيدة حظاً مماثلا من هذا التأكيد. والواجب هو الموازنة بين تعاليم الإسلام كلها، وإن كانت العقيدة -ولا ريب- هي أساس البناء.
- إغفال الأجهزة الإعلامية والثقافة والتربوية لهذا الجانب المهم، الذي يمثل غاية حياة الإنسان، وسر وجوده، والذي يجعل لحياته طعماً ومعنى ورسالة، وذلك ثمرة لإغفال أمر الدين كله عقيدة وشريعة، وأخلاقاً وآداباً، ونظام الحياة.
وليت الأمر وقف عند الإغفال والإهمال، بل تجاوزه إلى اللمز والسخرية، بل إلى الطعن والهجوم، أحياناً في صورة سافرة بلا خوف ولا حياء، وأحياناً أخرى -وهي الأكثر والأخطر- في صور مقَنّعة، وبأساليب ملتوية، ووسائل خفية ناعمة مسمومة، تقتل وتدمر، ولكن دون أن يسمع لها أزيز كأزيز الرصاص، أو دوي كدوي الألغام.
- تركيز الفلسفات والأنظمة التعليمية والتربوية على الجوانب المادية والتكنولوجية والعلمية في مناهجها وكتبها ومدارسها، والنظرة إلى الدين نظرة إهمال أو عداء، تقليداً للعلمانيين في الغرب، أو الماركسيين في الشرق، فالأولون يسقطونه من الحساب، والآخرون يعادونه سراً وعلانية.
- فإذا دخل الدين المدرسة أو الصف، لم يدخل دخول صاحب البيت ورب الدار، بل دخل كأنه زائر دخيل، أو ضيف ثقيل.. ساعة في آخر اليوم المدرسي، تُسد بها خانة أو يملأ بها فراغ، حتى تسكت ألسنة المتدينين المتزمتين الْمُتعِبين!
- ولا عجب، أن أصبح التعلم يشكو الجفاف والجفاء والخواء.. ويحتاج إلى الروح الذي يوقظ القلوب، ويحرك المشاعر، ويرد إلى الجثث الهامدة الحياة! ورحم الله الفيلسوف والشاعر المسلم محمد إقبال الذي قال عن هذا التعليم "الحديث" كما كان يسمى في عصره: "إنه لا يُعلِّم العين الدموع، ولا القلب الخشوع"!
حاجة عصرنا إلى تجديد الإيمان
إن العالم كله أحوج ما يكون إلى الإيمان، ولكن الإيمان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، يعتبر جوهر وجودنا، وهو لنا روح الحياة، وحياة الروح.
إن الإيمان هو سبيلنا إلى رضوان الله تعالى، وعدتنا في طريق الآخرة، فقد حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، ولن نقدر على احتمال المكاره في طريق الجنة، ولا أن نقاوم الشهوات المفضية إلى النار، إلا بقوة روحية داخلية، تستحب المكاره، وتستعذب العذاب في سبيل الله، كما تركل الشهوات ولذائذ الدنيا كلها، وإذا كان من ورائها سخط الله.
وهذه القوة الروحية إنما يصنعها الإيمان، إنه هو الذي يحفزنا إلى أداء المهمة التي خُلقنا لها، وهي عبادة الله تعالى، ويحبب إلينا هذه العبادة حتى تغدو لنا قرة عين.. وهو الذي يأخذ بيد المرء ليقترب إلى الله تعالى بأداء فرائضه الواجبة عليه، ويزداد تقرباً إليه بنوافل الطاعات، حتى يربح حبه له، فإذا أحبه سبحانه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وإذا دعاه أجابه، أو سأله أعطاه.
على أن الإيمان ليس سبيلا إلى سعادة الآخرة فحسب، بل هو السبيل أيضاً إلى سعادة الدنيا التي يحرص كل الناس عليها، ولا يجدها منهم إلا القليل، أو أقل القليل. وكم من أشياء يخطف بريقُها أبصارهم، فيلهثون وراءها يحسبون أن فيها السعادة المنشودة، فإذا هي سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
إن الإيمان وحده هو الذي يمنح الإنسان الطمأنينة وسكينة النفس التي هي روح السعادة وسعادة الروح {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
قد يستطيع الإنسان بواسطة المال والثراء أن يوفر لنفسه كثيراً من اللذائذ، وأن يعب من الشهوات ما يمكن أن يُشترى بالدرهم والدينار، ولكن السعادة الحقيقية لا تعرض في الأسواق، ولا تشترى بالنقود ولا بالنفوذ؛ لأنها تنبع من أعماق النفس، وليست سلعة نستوردها من هنا أو هناك.
وهي التي قال عنها أحد السلف الصالح على شظف عيشه: "إننا في سعادة، لو علم بها الملوك لجادلونا عليها بالسيوف"!
وقد يستطيع الإنسان بواسطة العلم أن يعيش في عالم أوتوماتيكي، يضغط بأصبعه على زر عن يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه، فيدنو له البعيد، ويلين له الحديد، ويتحرك الساكن، ويسكن المتحرك، ويعيش ناعما مرفها وكأن عشرات من الخدم بين يديه، فهو لا يقل -بل يزيد- فيما يتمتع به عن قارون العتيد، أو هارون الرشيد..
ولكن العلم -وإن هيأ للإنسان رفاهية الجسم- لم يهيئ له طمأنينة القلب، منحه الوسائل، ولم يمنحه غاية يعيش لها؛ لأن هذه ليست مهمة العلم، بل هي مهمة الإيمان.
والإيمان الذي نعنيه، هو الذي ينمّي في الإنسان حوافز الخير، وكراهية الشر، ويملأ ما بين جنبيه شوقاً إلى التزكي، ورغبة في الترقي من جاذبية الطين الأدنى، إلى أفق الروح العليا، وهو الذي يعطي الإنسان الطاقة والقدرة للتحليق بأشواقه الصاعدة، فوق مستوى الغرائز الهابطة. وهو الذي يهب الشباب في عنفوانه أمام الشهوات العارمة إرادة كإرادة يوسف الصديق، تقبل ذل السجن، وترفض إغراء المعصية، وشعاره: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.
إن الإيمان الذي ننشده، هو وحده الذي تنبت في تربته شجرة الأخلاق، وتنمو في ربوعه أزهار الفضائل المثلى، والقيم العليا، ولقد أثبت التاريخ والواقع، أن الأمم بدون أخلاق، لا تنهض بعبء جسيم، ولا تقوم بعمل مبدع.
وإن أمة بلا أخلاق، كبنيان بلا أساس. فهو مهما علا وامتد حتمي الانهيار، ورحم الله شوقي إذ قال:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ** فأقم عليهم مأتماً وعويلا!
ولطالما حاول كثير من الحكام والزعماء والمسئولين، أن يضبطوا سلوك مجتمعاتهم بالقوانين والقرارات وحدها، ناسين أن الإنسان إنما يقاد من داخله لا من خارجه، فلم تغن عنهم قوانينهم ولوائحهم شيئاً، وعادوا بالخيبة والخسران، وغلب الهوى على الحق، والأنانية على الخير، وعلا صوت الشهوة على صوت الواجب، ولا غرو أن شاعت جرائم كبيرة وظهرت مآس وفضائح على أعلى المستويات.
وكان مما كتبه أحد القضاة في بريطانيا تعليقاً على الحكم في إحدى هذه القضايا الكبيرة المثيرة: بدون قانون لا يستقر مجتمع، وبدون أخلاق لا يسود قانون، وبدون إيمان لا تسود أخلاق!
والإيمان هو الذي يفجر الطاقات الكامنة في إنسان شعوبنا المسلمة، فتندفع بقوة العقيدة في الله وفي دار الآخرة، ليزرع الأعاجيب، ويصنع البطولات، وينشئ الروائع، كما رأينا ذلك في التاريخ الماضي، وفي الواقع الحاضر.
إن الإيمان هو الذي يحل مشكلة النزعة الذاتية الفردية عند الإنسان -وهي نزعة فطرية ذاتية- حين يعلمه أن ما يقدمه من خير، وما يضحي به من جهد، وما يبذل من مال أو نفس، لن يضيع عند الله منه مثقال ذرة، بل كله مكتوب له، ومردود إليه، ومضاف إلى رصيده عند الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا}، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.
والإيمان هو الذي يضع بين يدي الإنسان قوة هائلة، حين يغرس في نفسه: أن قدر الله نافذ لا محالة، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما يخاف عليه الناس من رزق وأجل، مكتوب عند الله، لا مجال فيهما لزيادة أو نقصان، فالأرزاق مقسومة والآجال معلومة، ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوا أحداً بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
هذا اليقين بالقدر، يجعل المؤمن به يشعر أنه في جهاده ودعوته يمثل قدر الله الذي لا يرد، وقضاءه الذي لا يغلب، كما قال أحد الصحابة في حرب الفرس لأحد قوادهم، وقد سأله: من أنتم؟ فقال: نحن قدر الله! ابتلاكم الله بنا، كما ابتلانا بكم، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لنزلتم إلينا!
والإيمان كذلك هو الذي يوثق الروابط بين أهله، فيجمعهم في ظل الآخرة، ويصل بينهم بأوثق عرى المحبة، فالإيمان رحم بين أهله كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
وإذا كانت هناك أشياء تفرق بين الناس بعضهم وبعض، من اختلاف العرق أو اللون أو اللغة أو الإقليم أو الطبقة أو النسب أو الثروة أو غير ذلك، مما يحجز الناس بعضهم عن بعض، فإن الإيمان بحرارته وقوته هو الذي يذيب هذه الحواجز، ولا يعترف بها، ويجعل من وحدة العقيدة رابطة فوق رابطة الدم أو أقوى، ولحمة كلحمة النسب أو أوثق. حتى إن المؤمن ليؤثر أخاه في العقيدة على أخيه من النسب، بل على ابنه من الصلب.
وفي رحاب هذه الأخوة الكبيرة، تختفي الأحقاد الصغيرة، وتهون الدنيا التي يتهارش عليها الناس، وهي أهون عند الله من جناح بعوضة، وتنكمش مشاعر الحسد والبغضاء التي سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- (داء الأمم) وقال عن البغضاء بحق: إنها الحالقة، لا بمعنى أنها تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.
ولا يقف الأمر عند سلامة الصدر من الحسد والبغضاء، بل يعمر القلوب حب كبير، منبثق من حب الله تعالى، إنه حب لكل من والاه وآمن به.
حيث يرتفع بالإنسان من الأنانية الدنيا إلى الغيرية العليا. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، "والذي نفسي بيده، لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا".
وتتمثل الغيرية في أجلى صورها عندما تتجسد في هذا المعنى الذي لم يعرف ولن يعرف في غير مجتمع المؤمنين، وهو معنى "الإيثار" أن تجود بالشيء لأخيك وأنت محتاج إليه، وأن تتعب ليرتاح أخوك، وتعرض صدرك لتلقي ضربات السيوف وطعنات الرماح لتحمي أخاك، وأن تبيت على الطوى لتقدم كل ما عندك من زاد عشاء لأخيك. وهذا هو الذي وصف الله به الأنصار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وهنا تتحول المشاعر الرقيقة من الأخوة والمحبة والإيثار إلى تلاحم في الخير، وتراحم في السراء والضراء، وتعاون على البر والتقوى، صوره النبي بقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً"، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
شهر لتجديد الإيمان
شهر رمضان فرصة لتجديد الإيمان، وإحياء القلوب به، ورد الشاردين إلى ساحة الله، فينتبه الغافل، ويتذكر الناسي، ويتوب العاصي، ويقف الجميع على باب الرحمن الرحيم، قائلين ما قال أبوهم من قبل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
إنه شهر الروح والسمو بها، فالإنسان -بحكم طبيعته المزدوجة- يسمو تارة ويهبط أخرى، يحلق حيناً في آفاق روحية عليا، كأنه ملَك ذو جناح، ويتمرغ حيناً في أوحال المادة والشهوة كأنه حيوان من ذوات الأربع.
فلا عجب أن نراه يعثر كما ينهض، ويخطئ كما يصيب، ويعصي كما يطيع. ولكن الله جعل له أكثر من مصفاة وأكثر من مطهرة يغتسل بها من أدرانه ويتطهر بها من خطاياه، يخرج منها نظيفاً نقياً، كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
فهناك مصفاة يومية هي الصلوات الخمس.
وهناك مصفاة أسبوعية وهي صلاة الجمعة.
وهناك مصفاة سنوية وهي صيام رمضان وقيامة.
يقول الحديث النبوي الذي رواه مسلم في صحيحه: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر".
فمن لم تطهره الصلوات اليومية، ولا الجمعة الأسبوعية، كانت لديه فرصة في رمضان ليتطهر فيها بحسن الصيام والقيام، ويحوز مغفرة الله تعالى لما فرط منه. فإن فاتته هذه الفرصة فهو الشقي المحروم. ورد أن جبريل عرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يرتقي المنبر فقال: "بعُد مَن أدرك رمضان فلم يغفر له"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين! فيا بؤس من دعا عليه أمين الوحي وأمن عليه خاتم الرسل (1).
فالصلوات الخمسة هي ميزان اليوم، والجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام.
شهر الإخلاص الله
ورمضان شهر لانتصار الإنسان: انتصار إرادته على شهوته، وعقله على هواه. على أن أعظم ما يكون انتصار الإنسان حين يفعل الخير، ويعمل الصالحات، أداء للواجب، وابتغاء رضوان الله وحده. فهذه هي ذروة الإخلاص والتجرد، وهي ذروة السمو الإنساني.
والصوم الذي يأمر به الإسلام ويثيب عليه، ويفتح لصاحبه أبواب المغفرة والجنة، ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، فمن الناس من يصوم حِمية من مرض، أو سعياً إلى صحة، أو احتجاجاً على مظلمة، أو خضوعاً لمراسيم، أو اتباعاً لعادة، أو نحو ذلك من البواعث والأغراض، ولكن هذا كله لا يقيم له الإسلام وزناً.
والصوم المعتبر في ميزان الإسلام هو الذي يقوم به صاحبه "إيماناً واحتساباً" ، أي تصديقاً بوعد الله، وطلباً لما عند الله. وكذلك القيام؛ ولهذا حرص الرسول على ذكر هذه العبادة حين قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (2).
إن الإسلام رسالة توحيد وتحرير، جاءت تحرر الناس من عبادة ما سوى الله، من عبادة الطبيعة، وعبادة الأشخاص، وعبادة الأوهام، وعبادة الأهواء، وتوجيه العبادة إلى إله واحد، هو الرب الأعلى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.
وهكذا كان الصوم عبادة خالصة موجهة إلى الله وحده. وفي هذا جاء الحديث عن الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به. يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي" (3).
وعلامة الصوم المقبول -الذي هو ثمرة الإيمان والإخلاص لله- أن يكف الصائم لسانه عن الزور واللغو، ويده عن الأذى، وجوارحه كلها عن المعصية، وأن يصوم ظاهره وباطنه عما يسخط الله تعالى، وأن يدفع السيئة بالحسنة وإذا جهل عليه أحد أو سابه أو قاتله قال بلسانه وبقلبه : اللهم إني صائم!
بهذا ينتصر الإنسان، ويكون الصيام له جنة ووقاية، وإلا كان صياماً صورياً لا يُعِد صاحبه -في الدنيا- لتقوى، ولا يحقق -في الآخرة- لأهله مغفرة ولا رحمة ولا عتقاً من النار، وفي الحديث: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع" (4)، "ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (5).
ونسأل الله أن يجعل من رمضان موسماً لتجديد إيماننا، وإحياء قلوبنا، ويجعل غدنا خيراً من يومنا، وأن يجعل حظنا من هذا الشهر المغفرة والرحمة والعتق من النار.
.....
* نشر هذا المقال بمجلة الدوحة في يونيو 1985
1- رواه الحاكم عن كعب بن عجرة وقال : صحيح الإسناد وأقره المنذري في الترغيب .
2- متفق عليه .
3- روه ابن خزيمة في صحيحه .
4- رواه ابن ماجه واللفظ له والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححه على شرط البخاري .
5- رواه البخاري وأصحاب السنن.