د. حسن فوزي الصعيدي
بدأ فضيلة الشيخ القرضاوي يهتم بظاهرة التكفير ويكتب عنها، بعد محنة الإخوان المسلمين الثالثة في عهد الثورة. فقد كانت هذه الظاهرة الجديدة الشغل الشاغل للمعتقلين والسجناء والسلطة الحاكمة آنذاك؛ حيث التفت طائفة حول هذا الفكر المتطرف إلى حد جعلهم يرفضون الصلاة مع إخوانهم في العقيدة والفكر، وشركائهم في الاضطهاد والمحنة، وأساتذتهم في الدعوة والحركة.
أسباب الظاهرةويرجع فضيلة الشيخ القرضاوي سبب هذا التطرف إلى المعاملة الوحشية التي عومل بها السجناء والمعتقلون والتي لا تتفق مع دين ولا خُلُق، ولا قانون ولا إنسانية.
فقد اقتيد هؤلاء الشباب البرآء من بيوتهم إلى ساحات التعذيب، وصُبَّ عليهم من ألوان القهر والإذلال والتنكيل ما لا يكاد يحتمله بشر، مع أنهم لم يقترفوا جرمًا، ولم يفكروا في شر، ولم يجتمعوا على معصية.
وكان الذين يعذبونهم ويُنكلِّون بهم لا دين لهم، بل منهم مَن ظهر على لسانه من الكلمات ما يصل به إلى الكفر البواح.وكان السؤال الأول الذي طرح نفسه: ما حكم هؤلاء الذين يعذبوننا بهذه القسوة. أو على الأصح: ما حكم مَن وراءهم من الحكام الذين يأمرونهم بتعذيبنا لا لشيء إلا لأننا ندعوهم إلى الحكم بما أنزل الله؟وكان الجواب عندهم جاهزًا: أخذوه من ظاهر بعض النصوص: من آيات القرآن مثل آية المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كالأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي، ومن لم يوافقوهم على ذلك اتهموهم أيضًا بالكفر. وقالوا: مَن لم يُكَفِّر هؤلاء الحكام ومن والاهم فهو كافر؛ لأن الشك في كفر الكفار كفرٌ.ومن هنا بدأ نطاق التكفير يتسع، لا ليشمل مَن والى الحكام أو رضي بحكمهم، بل مَن سكت عن تكفيرهم.
وهذا يعم جمهور الناس.وقد اصطدم فكر هذه الفئة القليلة بفكر الجمهرة العظمى للمعتقلين والمسجونين من الإخوان المسلمين، وبخاصة القدامى منهم، الذين تتلمذوا على حسن البنا مؤسس الحركة. وقد بلغت القضية مرشد الإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبي -رحمه الله- وهو في سجنه فأنكر هذا الاتجاه وقال كلمته الحكيمة المعبِّرة: (نحن دعاة لا قضاة).وكان لموقف الإخوان ومرشدهم أثره في تقليص دائرة المنتمين إلى التطرف وانفضاض الكثيرين من حولهم، وإن بقي عدد منهم ممن لم ترسخ أقدامهم في الدعوة، ولم تتأصل جذورهم فيها.
وقد بيَّن فضيلة الإمام القرضاوي خطورة القضية والأسباب العامة التي أدت إلى بروزها، والطريقة التي يجب أن تُعالَج بها، كما وضع مجموعة من القواعد أو الحقائق الشرعية التي يجب الاحتكام إليها، وهي قواعد موثَّقة بأدلتها المحكمة من الكتاب والسُّنَّة.النبي يحذر من الغلووقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والتطرف، وقال فيما رواه ابن عباس: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).وقال فيما رواه ابن مسعود: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون قالها ثلاثا).
خطورة هذا الغلولقد انتهى هذا الغلو بهؤلاء الشباب المخلصين الغيورين على دينهم إلى تكفير مَن خالفهم من المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم. هو نفسه الذي انتهى بالخوارج قديمًا، الذين لم ينقصهم العمل أو التعبد، ولكنهم ساروا في غير الاتجاه المستقيم.
ومَن سار في غير الاتجاه المنشود: لم يزده طول السير إلا بُعدًا عن الهدف.وقفات مع ظاهرة التكفيريقول فضيلة الشيخ: ومع أني أنكر اتجاه التكفير وأعارض القائلين به، أحب أن أوضح هنا بعض النقاط.أولاها: أن الإعلام يتناول موضوع جماعة التكفير تناولًا غير سليم، يخرج عن الموضوعية وعن الأدب أحيانًا، باتهامهم في ضمائرهم، والسخرية من بعض الآداب والمظاهر الدينية التي حرصوا عليها.
الثانية: أنني كنت أود رغم بشاعة التهمة الموجَّهة إليهم أن يُحاكَموا إلى قضاء مدني عادي. نسمع فيه أصواتهم بحرية وعلنية. وتكون فرصة يتعرف الناس على فكرهم.الثالثة: أننا كما أنكرنا عليهم استخدام العنف في معارضة خصومهم، فنحن ننكر على السلطة أي استعمال للعنف معهم؛ فالعنف لم ينتج إلا شرًا، ولم يُولِّد إلا عنفًا مثله أو أشد منه.
ضوابط في مسألة التكفيريقول فضيلة الشيخ القرضاوي: قرر المحققون من العلماء وجوب التفرقة بين الشخص والنوع في قضية التكفير. أن نقول مثلًا: الشيوعيون كفار، أو الحكام الرافضون لحكم الشرع كفار، وذاك حكم على النوع. فإذا تعلق الأمر بشخص معين ينتسب إلى هؤلاء وأولئك وجب التوقف للتحقق والتثبت من حقيقة موقفه حتى تقوم عليه الحجة، وتنتفي الشبهة، وتنقطع المعاذير.
كما أن الحكم بالكفر على إنسان حكم جد خطير؛ لما يترتب عليه من آثار هي غاية في الخطر. منها: أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، وأن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنه لا يؤتمن عليهم. وأنه فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، بعد أن مرق منه. كما يجب أن يُحاكَم أمام القضاء الإسلامي؛ لينفذ فيه حكم المرتد بعد أن يستتيبه، ويقيم عليه الحجة. فإذا مات لا تجرى عليه أحكام المسلمين. وهذه الأحكام الخطيرة توجب على مَن يتصدى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريث قبل أن يقول ما يقول.
نواقض الإسلاملا يخرج المرء من الإسلام إلا إذا أنكر شيئًا من الأحكام (المعلومة من الدين بالضرورة) أو استخف بها واستهزأ. عندئذ يكفر كفرًا صريحًا، ويحكم عليه بالرِدَّة عن الإسلام، ولم يُستثنَ من ذلك إلا مَن كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن أمصار المسلمين. فهذا يُعذر. حتى يعلم ويفقه في دين الله.أما المعاصي والكبائر -وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها- فإنها تخدش الإيمان وتُنقصه، ولكنها لا تَنقضه من أساسه ولا تنفيه بالكلية.
انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغركما أن الكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام.
فقد تقاتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضًا بذلك. والمنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقينًا: أنه لم يكفر من قاتله في معركة الجمل، أو صفين، وإنما اعتبرهم بغاة. وقد صح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: (تقتلك الفئة الباغية).. كما صح الحديث في الخوارج أنهم (تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وقد قاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه.
كما أثبت القرآن إيمان الطائفتين المقتتلتين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وكما أثبت الأخوة الدينية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.
وتحدث فضيلة الشيخ عن تفاوت مراتب الأمة في الطاعة، واجتماع شُعب الإيمان مع بعض شُعب النفاق في بعض الأفراد، ونقل نقولا عن علماء المذاهب الفقهية المختلفة، والمجتهدين تبين خطورة هذه القضية.