الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
الحمد لله, والصلاة على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن ولاه... وبعد:
جرت سنة الله تعالى في عباده أن لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة, وسالك بالأمة سبيل المحجَّة, مع دين وتقوى, وعلمٍ وفتوى, عَدْلاً معتدلاً, يَخْلُفُ بسماحة خُلُقِه السالفين, ويتبع في عمله وسيرته الأئمة المعتبرين, يدافع عن الدين بلسانه وبنانه, ويرشد المسترشدينن المؤمنين إلى المنهج الحق وسلطانه, ويَرُدُّ على التائهين عن الحق والزائغين, بما أتاه الله من علم وحكمة, وفقه وبصر بالشريعة ومقاصدها, ومصادرها ومواردها, لتقوم به الحجة على الله, ويُزيل عنهم الشبهات والضلالات والالتباس.
وقد كان هذا النوع من العلماء في السلف الصالح قليلاً, وصار في زمننا أقلَّ من القليل, ومن هذا الأقل من القليل أخونا وعالمنا, وفقيهنا ومرشدنا العلامة الجليل والحبر النبيل الأستاذ الدكتور جمال الدين أبو المحاسن الشيخ يُوسُف القَرضَاوي, زاد الله في حسناته, وأمده بألطافه وبركاته.
هذا الأخ الكبير غنيٌّ عن التعريف بما آتاه الله من فضائل وشمائل, ولكن حَقُّ محبتنا له وتقديرنا لمحاسنه يقتضي منا أن نشيد بمآثره وعلمه وكريم آثاره, وقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا, ويرحم صغيرنا, ويعرف لعالمنا حقه".
فحقه علينا كبيرٌ بما قدَّم في خدمة العلم والدين, وتنبيه المسلمين, ولقد آتاه الله الأخلاق الرفيعة, والغزارة في العلم, والسداد في الرأي, والاعتدال البَيِّن الخالص, فسلك قوله وعلمُهُ إلى قلوب الناس شرقًا وغربًا, عُجْمًا وعُرْبًا, ولقد زينه الله بخُلق التواضع, وعفة اللسان, وحسن المعاشرة وخفة الروح, وهضم النفس, فلا خيلاء ولا استعلاء, ولا عنجهية ولا عصبية ولاضَعَة ولا خَوَر, ولا تزلُّف ولا تكلف, ولا امتهان للعلم ولا ابتذال, ولكن عزة وأنفة تُعرَفُ بها الرجال.
هذا العلامة الجليل قد خدم العلم والفقه الإسلامي بروحه وقلبه, وغيرته وحبه, يسره لكل مستفيد ومسترشد, ونَهِلَ - نفع الله به - من كل منهل عذب ومورد, حتى صار العلم لراغبيه على طرف الثمام .
وفقهُ هذا الأخ العالم الجليل فقهٌ يتصل أشدَّ الصلة بالحياة والواقع العملي, ويتجلى فيه رعاية الدين واليسر على المسلمين, فلا تشنج, ولا تعنت, ولا خَبَال ولا تفرنج, فقهٌ يسوده الدليل والتعليل والورع والتأصيل, فهو فقيه النَّفْس والبَدَن, وقد أوسع الكتابة في أغلب شؤون الحياة العملية, وما نَدَّ عن الجادة من المسائل المعدودة فيما كتبه مغمور في زاخر حسناته إن شاء الله تعالى, وقديمًا قال الإمام مالك رضى الله عنه: كلُّ عالم يؤخذ من قوله ويُترَك إلا صاحبَ هذا القبر الشريف، يعني الرسول الكريم عليه صلى الله عليه وسلم.
والفقه في الدين من أعز العلوم حصولاً, وأصعبها تحصيلاً, وأغناها نفعاً، وأجلها في الحياة موقعاً, وقد شهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية لمن أوتيه فقال: "من يُرِد اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين".. وهذا ثناء رفيع, ووسام منيف بديع, خَصَّ الله به أفرادًا من الأمة في كل عصر, يكونون سُرُجَ الدين في معرفة الحلال والحرام, وما يؤمَرُ به وما يُنهى عنه.
وهم قلة في كل زمان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, فما أندَرَ علِمَ الفقه وأهله وعارفيه الآن؟ والعلم مِنَحٌ ومواهب, وعطايا وهدايا, فما كلُّ من أراد علمًا بَرِّز فيه, وما كل من أراد فقهًا صار فقيها, فإن لكل علم من العلوم حاسة تستقبله وتنميه, وتفتحه وتقويه, وتمنح من أوتيها وتطابقت مع ما يميل إليه من العلوم, تمنحه نبوغًا راقيًا, وعلمًا صافيًا, ومعرفة بخوافي ذلك العلم وظواهره, ومن هُدي إلى أصدقِ ميوله فلا بد أن يُجيد ويُفيد.
وأخونا الفقيه العلامة أبو المحاسن القرضاوي قد يسَّره الله للفقه ويَسَّر الفقه له, فأفاد, وأجاد, ونفع العباد والبلاد. ولقد آتاه الله تعالى قلمًا سيالاً, وذهنًا حاضرًا وقَّادًا, وعلمًا حيًّا وافرًا وإخلاصًا مشهودًا, وحكمة في شأن الأمر والنهي, فصحح ورد بهذه المواهب كثيرًا من الشواذ التي صدرت عن بعض العلماء المتساهلين أو المسايرين, وقوَّم الأوَد وبيَّن الرشد فيما انحرفت به بعض الفتاوي والأقلام, بأدب العالم المتمكن الأديب, وعلم الفقيه الواعي الأريب.
وقد كانت له اليد البيضاء والهمة القعساء في إنشاء "الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية" وآزاره في السعي لإقامتها أناس صالحون, عرفوا إخلاصه وقدروا غيرته, ورحبوا بعزيمته ونَشْطتِه في هذا القصد العالي والنظر السديد البعيد, فكم أقيم بها من مَعَايِش, ومساجد ومشاريع قضت على الجوع والمرض والبطالة والجهل في مهادها, وسلَّمت المسلمون من تسلط التبشير بالتنصير واستغلالِ التسلط النصراني بالدواء والعلاج والمساعدات.
هذه مناقب عالية, ومزايا غالية, يضاف إليها عَرْضُه في المناسبات الشعرَ الرقيق المتدفق بالأحاسيس الصادقة, والمتحلي بالألفاظ المختارة البديعة, وهذا من كمال شخصية العالم: أن يقول الشعر ويُجيدَ النثر, فللشعر وقعٌ على النفوس لا يَرقى إليه النثر, وبخاصة إذا كان شعرًا نابعًا من القلب, متفجرًا من الواقع والآلام, مصورًا الهموم وعلاجَها, وداعيًا لخوض الغَمَرات وتخطي العَقَبات, وتحريكِ الشكيمة والإباء والثبات, فكم هَزَّ القصيدُ من قلوب وانية, وحرَّك فيها المكارم والعزائم فسادت وقادت.
ولولا خِلالٌ سَنَّها الشعرُ ما دَرَى بُناةُ المعالي كيف تُبنَى المكارمُ
هذا العالم الجليل يمثل المشيخة الحقيقية النقيَّة الصافية العَطِرة, التي تتضمن القدوة الصالحة الناصحة العالمة الواعية, والشخصية المحبوبة الجذَّابة, بما حباه الله من كريم الصفات والمزايا الرفيعة, فمن خالطه معرفةً أحبه, ومن سَمِعَ حديثَه أصغى إليه وانتفع به, ومن قرأ له استهدى بما يقول, وحلَّ كلامُه منه مَحَلَّ الاستحسانِ والقبول.
وهذا فضل رباني, وعطاء إلهي, يختص الله تعالى به بعضَ عباده الصالحين, ويكرمهم به كرامةً خصوصية, ففي الحديث الشريف الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحبَّ الله عبدًا نادَى جبريل: إن الله يُحبُّ فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل, فُينادِى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحِبُّوه, فيُحبه أهل السماء, ثم يوضع له القبولُ في أهل الأرض".
وفي رواية الترمذي: "إذا أحبَّ الله عبدًا نادَى جبريلُ إني قد أحببتُ فُلانًا فأحبه, قال: فيُنادَى في السماء, ثم تَنزِل له المحبَّة في أهل الأرض, فلذلك قول الله: "إِنَّ الَّذيِنَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اٌلصَّلِحَتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ اُرَّحْمَنُ وُدًّا" .
هذا , وأما تآليف الشيخ الجليل فقد زادت مؤلفاته النافعة, وكتبه المفيدة على سبعين مؤلفًا فيما أحسب, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, وقد قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: كتابُ العالم ولدُهُ المخَلَّد.
فكم لفضيلة هذا الشيخ من أولاد ومحبين ومستفيدين ومنتفعين, فهذا من الحسنات الباقية, والصالحات المستمرة الأجر -إن شاء الله تعالى- فما أكثر خيرَه وأوسَعَ بِرَّه؟ تقبل الله منه صالح الأعمال, وزاده الله بسطةً في العلم ونفْع المسلمين, وهو خير الواهبين..
وفوق هذا وذاك قد أنعم الله تعالى عليه بلُقْيَا الرجال الأماثل, والعلماء الأفاضل, الذين كانوا البقيةَ الباقيةَ في علماء الجامع الأزهر رحمهم الله تعالى, وحَظِيَ بلقاءِ الأستاذ المرشد الأمين, والداعيةِ الموهوب الكنز الثمين, الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى, فنَهِل من علمه وفضله وحنكته وإمامتِه وعَلَّ.
ومَا بَقِيتِ من اللَّذاتِ إلا مُحادثةُ الرجالِ ذوي العقولِ
فكان لقاؤه لهذا الداعية العظيم الزُّبْدَ على الشهد, ولقاءُ الرجال الموهوبين الأفذاذ من أعظم المغانم, فهذا من المغانم العزيزة التي فاز بها الأخ الكريم الشيخ يوسف زاده الله فضلاً.
هذه كلمات قصيرة لا تُعبر عن مقام الشيخ الجليل, ولا تُعبِّر عن إمامتِه وفضله فإنه ليليقُ سِفْرٌ كبير لجلائل أعماله, واستعراضِ مآثره وإنجازاته في الحقل العام والخاص, وفي التعليم والتربية, والتأليف والمواقف المشهودة المحمودة في أحرج الأوقات, فأنا أهنئه أصالةً عن نفسي ونيابةً عن إخواني المسلمين ببلوغه العامَ السبعين, راجيًا له طولَ العمر المديد بالعافية والسرور, وقد جاء في الحديث الشريف الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم, عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الناسِ من طال عُمُره وحَسُنَ عملُه"..
وأسأل الله أن يبارك لنا في عمره الشريف وعافيته الغالية, ويديم عليه إمداده وإسعاده, ويكرمه بالقبول والإحسان, والله ولي المحسنين, والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــ
- المصدر: "يوسف القرضاوي.. كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه"، ط. دار السلام القاهرة.