د. يوسف القرضاوي

(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) (الإسراء:70)

ما الإنسان؟ إنه في نظر الماديين قبضة من تراب هذه الأرض. من الأرض نشأ، وعلى الأرض يمشي، ومن الأرض يأكل والى الأرض يعود!!

هو كتلة من اللحم والدم والعظام والأعصاب والأجهزة والغدد والخلايا وما العقل والتفكير إلا مادة يفرزها المخ، كما تفرز الكبد الصفراء، أو كما تفرز الكلية البول! هو كائن ليس له أهمية ولا امتياز على غيره، إنه أحد الأحياء الكثيرة المتنوعة على هذه الأرض، بل هو من جنس هذه الهوام والحشرات والزواحف والقرود، غاية أمره إنه «تطور» بمرور الزمن فأصبح هذا الإنسان!!

والأرض التي يحيا عليها الإنسان، إن هي إلا كوكب صغير ضمن المجموعة الشمسية، التي هي مجموعة من مجاميع ضخمة كبيرة كثيرة يضمها عالم الأفلاك، تعد بمئات الملايين.

هكذا أنبأنا الفلك الحديث، وعرفنا من "كوبرنيكس" أن الإنسان شيء ضئيل في الكون الكبير ..هذا من حيث المكان.

أما من حيث الزمان، فقد جاء «دارون» وجاء الجيولوجيون فأثبتوا لنا أن الإنسان شيء تافه أيضاً من حيث الزمان، فإن عمر الأرض يمتد إلى مئات الملايين من السنين، فما قيمة أي مائة أو حتى مئات من الأعوام يعيشها الإنسان؟

تلك هي قيمة الإنسان بالنسبة إلى المكان وإلى الزمان في نظر الماديين.

إنهم لا يميزونه بما يسميه غيرهم «الروح اًلإلهي» أو «النفس الناطقة» إنه ليس إلا هذا الهيكل المادي وهذا الجسم الحيواني.

وما قيمة هذا الجسم، وهذا الهيكل الذي هو الإنسان؟

"إن أحد العلماء رد جسم الإنسان إلى العناصر الأساسية فيه، فخرج بالنتائج الآتية:

إذا جئنا بإنسان زنته مائة وأربعون رطلاً (140) وغلغلنا النظر في تكوينه وجدنا بدنه يحتوى على المواد الآتية:

قدر من الدهن يكفي لصنع (7) قطع من الصابون.

قدر من الكربون يكفي لصنع (7) أقلام رصاص.

قدر من الفوسفور يكفي لصنع رؤوس (120) عود ثقاب.

قدر من ملح المغنيسيوم يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات.

قدر من الحديد يمكن عمل مسمار متوسط الحجم منه.

قدر من الجير يكفي لتبييض بيت للدجاج.

قدر من الكبريت يطهر جلد كلب واحد من البراغيث التي تسكن شعره.

قدر من الماء يملأ برميلاً سعته عشرة جالونات!

وهذه المواد تشترى من الأسواق بمبلغ من المال يساوي خمسين أو ستين قرشاً مصرياً!!

وتلك هي قيمة الإنسان المادية (من كتاب "نظرات في القرآن" للأستاذ محمد الغزالي).

لا روح هنالك ولا نفحة من السماء يختص بها هذا الكائن الفذ!!

يقول أحد ملاحدة العرب المعاصرين:

"هل نحن فكرة أكثر من كون الحشرات فكرة؟! نحن لا نساوي أكثر من أنفسنا، وكذلك الحشرات. ونحن لا نريد إلا أن نحقق أنفسنا، وكذلك أيضاً الحشرات؟!

والفرق بيننا وبين الحشرات هو فرق التفوق فقط. وفرق التفوق بيننا وبين أرقى حيوان. لا يفوق كثيراً فرق التفوق بين أدنى حشرة وأرقى حيوان!

ماذا نفقد أو يفقد الكون أو تفقد الشمس والقمر بفقدنا أنفسنا؟!

وليس ما ذهب إليه دارون وفرويد وأمثالهما من الماديين بأفضل من هذه النظرة إلى الإنسان. إنه عندهم أخو الحشرات، وصنو القرود! إنهم لا يبصرون فيه إلا القشرة والغلاف، ولا يعرفون فيه إلا الطين والحمأ المسنون! فهو مخلوق من طبيعته الانجذاب إلى أسفل، وليس الرقي إلى أعلى. من طبيعته الهبوط إلى الأرض، وليس الارتفاع إلى السماء. هو -بعبارة موجزة- "حيوان متطور" ترقى من طور إلى طور حتى بلغ ما هو عليه. فالحيوانية في الإنسان قشرته ولبه، ولحمته وسداه!

فأي إيحاء للنفس الإنسانية أسوأ من هذا الإيحاء أثراً؟ أن يرى الإنسان نفسه مخلوقاً هابطاً .. حيواناً .. طيناً وحمأ! إنه لا يستغرب من نفسه الانحدار والتلوث والإسفاف ولا يستنكف من القذارة والأوحال أن يتمرغ فيها، ويتلطخ بها، بل المستغرب منه أن يتعفف ويتطهر، وأن يحيا نظيفاً مستعلياً على الشهوات، والمطامع المادية باذلاً النفس والمال في سبيل الحق، ابتغاء رضوان الله.

ــــــــ

- عن كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.