د. يوسف القرضاوي

من المهم واللازم اليوم في تثقيف المسلمين وتفقيههم في دينهم: أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يحذف من ثقافة المسلم.

في المعاهد الدينية، والجامعات والكليات الإسلامية: تدرس أشياء تستغرق من جهود الطلاب وأوقاتهم وتحصيلهم ما لو قضوا نصفه أو ربعه فيما هو أجدى عليهم في دينهم أو دنياهم لكان ذلك أحرى وأولى.

أذكر أننا كنا في كلية أصول الدين ندرس من كتاب "المواقف" للإيجي، وشرحه للجرجاني بعض الفقرات ـ ولا أقول الفصول ـ في "الطبيعيات" من الكتاب، وفي "المقدمات" ونتعنى في فهمها وهضمها، ويعاني شيوخنا في شرحها، وحل غوامضها، وكشف اللثام عن معانيها.

ولو أننا أنفقنا هذا الوقت وهذا الجهد في متابعة فلسفات العصر والرد عليها ردا علميا موضوعيا، أو في متابعة مصادر الإسلام الأساسية وشروح الأئمة الكبار عليها، أو في النبش عن الأفكار والمفاهيم الأصيلة في المدارس التجديدية في الإسلام، لعاد ذلك علينا بالخير الكثير، والنفع الغزير.

ولازال هناك قصور ملحوظ فيما يدرس في تلك المعاهد والجامعات، فهناك تمدد لبعض المواد، على حساب مواد أخرى لا تأخذ حقها.

ولازال "علم الكلام" يدرس على الطريقة القديمة نفسها، وهو في حاجة إلى أن يتجدد ليتحدث بلغة القرآن التي تخاطب الفطرة، وتخاطب العقل والقلب معا، وليس بأسلوب الفلسفة اليونانية، وقد ألف الإمام ابن الوزير كتابه القيم "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان".

كما أنه في حاجة إلى أن يتسلح بعلم العصر، وثقافة العصر، ويقتبس من البراهين والآيات المبثوثة في الكون ما يشد أزر الإيمان، ويقطع دابر الإلحاد، كما في الكتب الشهيرة في ذلك: "العلم يدعو إلى الإيمان"، "الله يتجلى في عصر العلم"، "مع الله في السماء"، "الله والعلم الحديث" وغيرها.

وعلم الفقه في حاجة إلى أن ييسر للناس، وأن يعرض عرضا جديدا، ويهتم فيه بما يهم الناس في هذا العصر، من شركات ومعاملات وأعمال بنوك، وعقود مستحدثة، وعلاقات دولية جديدة، وأن يترجم المعايير القديمة من نقود ومكاييل وأوزان وأطوال إلى لغة العصر.

وإلى جوار ذلك لابد من العناية بالثقافة التي تقدم إلى الجمهور المسلم، وضرورة تنويعها وتلوينها، فمنها ما يقدم إلى المثقفين ثقافات مدنية مختلفة.

ومنها ما يقدم إلى العامة وأشباه العامة من العمال والفلاحين، ومن قاربهم.

فكثيرا ما حشا الوعاظ والمدرسون ـ أو المؤلفون المكثرون ـ أدمغة الناس بأفكار ومعلومات دينية يرددونها، ويحفظونها عن ظهر قلب، وما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من محكمات الشرع برهان، مصدرها الإسرائيليات في التفسير، والأحاديث الواهية والموضوعة وما لا أصل له!

مثل الكلام عن "الحقيقة والشريعة"، أو "الحقيقة المحمدية" أو أن النبي هو أول خلق الله، أو الكلام المبالغ عن عالم "الأولياء" و"الكرامات" مما لم يقم عليه دليل من دين، ولا برهان من علم، ولا سند من منطق.

ونحو ذلك شغل آخرين لهم بالمسائل الخلافية بين المذاهب بعضها وبعض، أو بافتعال معركة مع التصوف كله، والمتصوفة جميعا، بما فيهم من متسنن ومبتدع، ومستقيم ومنحرف، والواجب هو التمييز والتفضيل، وعدم تعميم الأحكام في هذا المقام.

ـــــ

- من كتاب "في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ.