د. يوسف القرضاوي
إنني أنعي للأمة الإسلامية والأمة العربية وأهل العراق وخصوصا أهل السنة منهم، أخانا العزيز علينا والحبيب إلينا.. الدكتور حارث سليمان الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين العراقية، وهي الهيئة الأساسية لعلماء السنة في العراق، وعضو مجلس الأمناء السابق للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
والدكتور الضاري ينتمي لواحدة من كبرى عشائر العراق، وهي عشائر زوبع، التي تنتمي إلى قبائل شمر الطائية العربية العريقة، وقد لعبت دورا بارزا في مقاومة الإحتلال البريطاني للعراق في العشرينيات من القرن الماضي، وجده الشيخ ضاري شيخ عشائر زوبع، وهو من قام بقتل الجنرال الإنجليزي "لجمن" القائد المكلف بالسيطرة على المنطقة الغربية إبان الثورة العراقية، ووالده كان ممن وقف وصمد وجاهد ضد الاستعمار البريطاني من قديم.
توفى الشيخ الدكتور حارث الضاري عن عمر يناهز 74 عاما، في إحدى مستشفيات اسطنبول بعد أن عاش حياة حافلة بالعطاء، سواء في ميدان تدريس العلم الشرعي وتربية الأجيال وتخريج العلماء والدعوة إلى الله، أم في ميدان العمل السياسي، أم في الجهاد ضد المحتل الأمريكي في العراق، فقد كانت له مواقفه الداعية لخروج القوات المحتلة من العراق، وقد أطلق العديد من المبادرات الوطنية الداعية لوحدة وتكاتف العراقيين في وجه مخططات التقسيم والطائفية.
وقد عانى الشيخ كثيرا من أجل مواقفه؛ فقد صدرت في حقه مذكرة توقيف من الحكومة العراقية عام 2006؛ اضطر بعدها إلى أن يخرج إلى الأردن، وقد قتل أخيه ضامر وقبله ابن أخيه غيله، فقابل كل المحن بصبر وعزيمة، وثقة بالله، وإصرار على المضي قدما في طريق الجهاد، وظل على إصراره أن المقاومة في العراق حق مشروع، وأن كل من يعين الإحتلال يعد من المحتلين.
تخرج في جامعة الأزهر وحصل منها على شهادة العالمية في كلية أصول الدين عام 1963، ثم تابع تعليمه العالي وحصل على شهادة الماجستير في التفسير (1969) وبعدها سجل في شعبة الحديث، فأخذ منها أيضا شهادة الماجستير، ثم حصل على الدكتوراه في الحديث عام 1978 ليعود إلى العراق، حيث عمل مفتشا في وزارة الأوقاف، ثم بعد ذلك نقل إلى جامعة بغداد بوظيفة معيد، فمدرس فأستاذ مساعد فأستاذ.
وعمل أكثر من 32 عام بالتدريس الجامعي في عدة جامعات عربية، كجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة عجمان بالإمارات العربية المتحدة، وكلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي، ثم تقاعد ليتفرغ لإدارة هيئة علماء المسلمين في العراق.
كان الضاحي الأب الروحي لمقاومة الإحتلال الأمريكي للعراق، ورفض المشاركة في الانتخابات التي أجريت أواخر يناير عام 2004 تحت سلطة المحتل، ورفض تشكيل أي كيان سياسي أو رسمي، ما بقي الإحتلال الأمريكي في العراق، وهو الأمر الذي خالفته فيه ورأيت أن المشاركة في الانتخابات وفي العمل السياسي ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات.
ظل الضاري في الأردن، وبعد خروج الإحتلال الأمريكي من العراق، معارضا لنظام الحكم الطائفي في العراق، ودعا الشعب العراقي إلى القيام بثورة شعبية سلمية ضد حكومة نوري المالكي، وبعد سيطرة مسلحي العشائر العراقية على بعض المناطق العراقية العام الماضي، اعتبر الضاري أن ما وقع ثورة من أجل رفع الظلم عن جميع المظلومين والمستضعفين في العراق، وضد ممارسات إجرامية وسياسات طائفية استبدادية اتبعها رئيس الوزراء نوري المالكي.
وانتقد الفتاوى الطائفية التي صدرت من بعض المراجع الشيعية؛ لأنها تؤجج الفتنة بين العراقيين وتدعم الحاكم الظالم، وأكد في حوارات صحفية على أهمية وحدة العراق، وأن مشروع الفيدراليات والأقاليم مشروع أعداء العراق الدوليين والإقليميين لتقسيمة على أسس طائفية وعرقية مقيتة.
انتقد الضاري تنظيم الدولة الإسلامية وإعلانه عن ما أسماه "دولة الخلافة"، معتبرا ذلك تمهيدا لتقسيم العراق وتفتيت الوطن العربي.
لم يشغل الشأن العراق الشيخ حارث الضاري عن الإهتمام بمشكلات المسلمين الأخرى، وقد كانت له إسهاماته في القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا الأمة.
وقد انتخب عضوا في مجلس أمناء الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أكثر من مرة، وكان له رأيه الواضح وصوته المدوي ووقفته الصارمة ضد الذين أرادوا أن يحرفوا الإتحاد عن موضعه، وما عرفنا فيه إلا الصدق والصبر.
رحم الله فقيد الأمة وفقيد العراق الشيخ حارث الضاري..
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا".