هشام النجار*
لا شك أن هناك جهات كثيرة تريد لصوت الشيخ القرضاوي أن يسكت، كما عبر عن ذلك مؤخراً أحد الصحفيين المصريين بطريقة فجة بذيئة - وذلك في مقال رئيسي بصحيفة الأهرام المصرية التي يرأس تحريرها- قائلاً: "آن للقرضاوي أن يخرس" جامعاً بينه وبين محمد البرادعي في نفس العنوان، ربما تخفيفاً من وقع الصدمة وامتصاصاً لحجم الغضب المتوقع ضده.
وتفسيراً لهذا الهجوم المتواصل على الإمام القرضاوي من مصادر متنوعة؛ فهناك جهات ثلاث تمثل أركاناً رئيسة للخصومة مع القرضاوي والعداء له ورفض صوته الذي سبب لهم ولمصالحهم مشاكل وخسائر لا أول لها ولا آخر، وربما جاء مقال ذلك الصحفي مؤخراً مُعبراً عن حجم الوجع والضرر الذي سببه القرضاوي بمواقفه وصوته الجريء لهذه الجهات ومناصريها وأعوانها وخدامها. وهذه الأركان هي:
أولاً: أنصار المستبدين والطواغيت الصغار، الذين لا يزالون يقاومون المد الثوري في محاولات حثيثة للحفاظ على مصالحهم ومراكزهم التي ترسخت قواعدها خلال فوضى الأنظمة الديكتاتورية.
ثانياً: أنصار إيران في الداخل المصري من المستفيدين من المال الطائفي الحرام للترويج للمذهب الشيعي في البلاد السنية وعلى رأسها مصر.
ثالثاً: أنصار التطبيع والمصالحة مع العدو الصهيوني من المستفيدين من أموال الهِبات والمعونات الغربية بشروط مسبقة تضع الأولوية لخدمة المصالح "الإسرائيلية"، وحماية أمن "إسرائيل" القومي، ورعاية وضعها الإستراتيجي، كقوة لا ينازعها أحد في منطقة الشرق الأوسط.
والطريف أن هذه الجهات الثلاث لم تتوقع بالمرة أن يكون صوت الشيخ القرضاوي هو الصوت الأكثر تأثيراً ووضوحاً على تلك الأصعدة؛ نظراً لما يُعرف به من وسطية الخطاب واعتداله وميله للحوار والحلول السلمية والتعايش!
فكان هذا الصوت الوسطي المعتدل الذي تحمله حنجرة شيخ مُسنٍّ جاوز التسعين من عمره هو مصدرَ الإزعاج الأول الذي أقلقَ وأرَّقَ هذه الجهات الثلاث وأنصارها وعملاءها في الداخل المصري، وربما أيضاً في الخارج العربي والشرق أوسطي والدولي.
فعلى صعيد مواجهة أنظمة الاستبداد والطغيان منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، كان صوت الشيخ يوسف القرضاوي هو الأعلى والأكثر وضوحاً وتأثيراً في الشارع الثوري العربي.
الشيخ الطاعن في السن الذي ترهَّلَ جسده وشاخ، ولم يعد يستطيع السيرَ إلا بمساندة "عُكَّاز"، ولا يقدر على الخطابة إلا من الوضع جالساً، فاجأَ الجميع بحماسته الوثابة وثوريته الجامحة التي ميزته عن جميع الدعاة والعلماء الأكثر شباباً والأقل في العمر، حتى استحق عن جدارة لقب "إمام الثائرين".
ففي الوقت الذي كان يحشد بعض الوعاظ والدعاة الكثير من الأحاديث النبوية المصنفة في باب "الفتن" - لإقناع الثوار بالتقهقر، والكف عن غضبهم، وإنهاء مظاهراتهم الحاشدة ضد الأنظمة المستبدة الديكتاتورية في بلادهم- كان الشيخ القرضاوي يَزأر من فوق منبره برُوح وثَّابة وحماسة مُلفِتة، وهو الذي تخطى حاجز التسعين من عمره، لدرجة أن خطبه ورسائله الثورية -التي واكبت انطلاق ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأخيراً سوريا- كانت تمثل رَافداً هامّاً من روافد الحماسة والثورية ورفع الرُّوح المعنوية لدى الثوار على اختلاف مراحلهم العمرية وانتماءاتهم الفكرية والعقائدية.
كان الوعاظ يحاولون باستماتة -متكئين على نصوص حديثية واردة في باب الفتن- إقناع الناس بالعودة إلى بيوتهم، وعدم التعرض للفتن والمشاركة فيها، أما هو فقد قدَّم بعقل المجتهد الواعي نصوصَ القرآن، جاعلاً إياها في المرتبة الأولى عند الاستدلال، وَفقَ رؤية منهجية منطقية واضحة، تؤدي حتماً إلى تبني الموقف الصائب، وامتلاك الرأي الأقرب للقبول، المُعانق لرُوح الشريعة، المنسجم مع الواقع المعاش.
أكَّد الإمام الثائر من فوق منبره على أن القضاء على أنظمة الظلم والفساد والاستبداد نعمة تستحق شكر المسلم لربه، مُشيراً إلى قول الله عز وجل: {فقُطِعَ دابرُ القومِ الذين ظلموا، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين}، مُؤكِّداً أن الله تعالى هو ناصر ومؤيد الفئة المستضعفة والشعب الثائر في وجه حكامه المعتدين على حقوقه الناهبين لثرواته، مُستدِلاً بقوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النارُ وما لكم من دونِ اللهِ من أولياءَ ثم لا تُنصرون}.
وأرسلَ الشيخ القرضاوي بخطابات طمأنة للثوار، أمدتهم بكثير من عوامل الصبر على طريق النضال الشاق، وجعلتهم يتحملون التبعات، ويقدمون الشهداء والتضحيات، وأمدتهم خطاباته ورسائله الثورية الثرية المقنعة بزاد معنوي كبير، جعلهم يصرون على الاستمرار حتى النهاية، حتى يرَوْا بأعينهم سقوط المستبدين الطغاة.
وكان ما استدل به في هذا السياق من آيات القرآن مُزلزِلاً للحكام الطواغيت، مُرْعِباً لهم ولأعوانهم، مُربِكاً لجنودهم، ومن ذلك قول الله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين}. هكذا استخدم القرضاوي الخطاب القرآني في مواجهة النظم العربية الديكتاتورية، وفى دعم الثوار وتغذية رُوحهم المعنوية.
وفي حين أعرضَ الدعاة التقليديون عن الاستدلال بالأحاديث والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبيان مصائر الظالمين والنهي عن الظلم والتسلط وهضم حقوق الناس، كان الشيخ الثائر هو الوحيد الذي يستدل بها، داعماً وجهة نظره ورسالته الثورية بها جنباً إلى جنب مع الآيات القرآنية؛ ومن تلك الأحاديث:
ما ورد في الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". ثم قرأ صلى الله عليه وسلم الآية:{وكذلك أَخْذُ ربِّك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
وفي سنن الترمذي عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
وفي المستدرك للحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتَ أمتي تَهابُ فلا تقولُ للظالم: يا ظالم، فقد تُوُدِّعَ منها".
ورَوى أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده".
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعاً: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
هكذا حشد الإمام الثائر المدفعية القرآنية والحديثية في وجه رءوس الاستبداد والطغيان، في حين عَكفَ آخرون على النبش في آثار الفتن عما قد يخوف الناس، ويردعهم، ويثبط هممهم عن مواجهة الظالمين وجنودهم.
وهكذا كان الشيخ الذي يمثل رمزية الخطاب الوسطي المعتدل في العصر الحديث، وهو من وقف بقوة إلى جانب الثائرين على الطغيان في وجه مَن ظلم وطغى على الشعب، وضيع حقوقه، وأهدرَ حرماته، وسرق ثرواته، وزوَّرَ إرادته على مدى عقود متعاقبة.
لذلك لم يكن غريباً أن يُواجَه صوتُ الإمام الثائر في محاولة يائسة لإسكاته، بالهجوم العنيف الذي وصلَ لدرجة تحريك مؤسسات صحافية كبرى للتطاول عليه بهذا الشكل الفج، كما فعلت صحيفة الأهرام المصرية مُؤخراً.
وربما كان هذا هو نفس ما فعلته الجهتان الأخريان المتضررتان من صوت الإمام. فلا أحدَ ينسى ذلك الهجوم العنيف الذي شنته إيران -عبر وكالة أنبائها الرسمية وعلى لسان بعض مراجع الشيعة- على الشيخ القرضاوي. وكان الهجوم مُوجَّهاً في الأساس للرمزية الكبيرة التي يمثلها الرجل كرئيسٍ للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكأحد أعلام علماء السنة، وممن لهم حضور وتأثير وشعبية طاغية بين جماهير أهل السنة على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم وثقافاتهم. وقد تميز الهجوم الشيعي أيضاً بالإسفاف والتطاول -كهجوم صحيفة الأهرام- فكان فجّاً متدنياً في لغته ولهجته.
وكذلك كان الدافع واحداً؛ فالشيعة لم يتوقعوا أن يتصدى لمحاولاتهم الحثيثة في نشر مذهبهم في البلاد السنية الخالصة؛ ذلك الرجلُ صاحب الخطاب الوسطي المعتدل؛ والذي له باع مشهود في مشروع الحوار السني الشيعي! فقد حذر الدكتور القرضاوي بقوة من المد الشيعي، ومن استخدام إيران كل إمكانياتها وطاقاتها المادية والإعلامية والفكرية لنشر الفكر الشيعي في مناطق المسلمين السنة على امتداد العالم الإسلامي.
وكان قد حذر قبل ذلك أكثر من مرة عبر وسائل الإعلام رغم مكانه من مؤسسة الحوار ومن دائرة التقارب والوحدة، بل وحذر من ذلك علانية في مؤتمرات التقريب التي كان يحضرها ويشترك في فعالياتها. فما كان من الشيعة إلا أن حركوا أدواتهم الإعلامية للهجوم الحاد، الذي استخدمت فيها العبارات السوقية الفجة، بل واشترك في الهجوم على الإمام القرضاوي مرجع إباضي وهو "آية الله التسخيري" وهو نائبه في رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكذلك المرجع الشيعي اللبناني الراحل "محمد حسين فضل الله" وكان بمثابة الزعيم الروحي لحزب الله اللبناني الشيعي.
إن خَدَمة وبقايا الاستبداد والطواغيت اليوم في وضع مشابه لوضع الشيعة في مواجهة موقف الإمام القرضاوي المناوئ لمصالحهم؛ فالشيعة ليسوا في حاجة إلى الإبقاء على ما كان بينهم وبين نظرائهم من أهل السنة من احترام كانوا يظهرونه لرموز السنة تقية، ويُخفون وراءه قلوباً مليئة بالكراهية، وكذلك أنصار الاستبداد وأعوان الظالمين، الخائفون على مصالحهم، والخائفون من مستقبل غامض مجهول لكل من أفسد ونهب من ثروات الشعب. فاليومَ تتعرض المصالح هنا وهناك لمحنة قاسية ويهددها الانهيار؛ فلا حاجة إذاً لأحاديث الوَحدة الإسلامية والتقارب والتقريب والالتقاء والحوار، ولم يَعُد مُجدِياً إظهار الاحترام والتوقير للعلماء الكبار ما داموا يقفون بقوة وصلابة على رأس الحملة الفاضحة والكاشفة لخطط خَدَمة الاستبداد والطغيان من جهة، وخَدَمة المشروع الشيعي الإيراني في المنطقة من جهة أخرى.
الدكتور القرضاوي الذي طالما عوَّل عليه الشيعة في مشروع الحوار والتقارب، ما فتئ يحذر العالم الإسلامي والشعوب المسلمة من مشاريعهم التوسعية، ويفضح خططهم لنشر المذهب الشيعي، والتي يخصصون لتنفيذها من الإمكانيات والكوادر والطاقات والأموال ما يوازى مخصصات الجيش وميزانية التسليح، فبالنسبة لهم كان حرق ورقة القرضاوي في هذا التوقيت أولى من الصبر عليه -تقية- كشريك في مشروع الحوار المزعوم بين السنة والشيعة.
الطريف أيضاً في هجوم رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية الأخير على الإمام القرضاوي، أنه جاء مشابِهاً لاتهام ملالي إيران لفضيلته عبر وكالة أنبائهم الرسمية؛ وهو اتهامهم له بالخيانة والعمالة وخدمة المشروع الصهيوني وخدمة أجندات أجنبية في المنطقة، وبأنه يتحدث نيابة عن زعماء الماسونية العالمية وحاخامات اليهود! والإمام القرضاوي ليس في حاجة للدفاع عنه؛ فتاريخه معروف، ومواقفه مشهودة، وجهاده وبذله وعطاؤه وتضحيته في سبيل قضايا أمته المصيرية لا يخفى على أحد، ويتحدث به الخصوم قبل الأصدقاء، وقد تُوِّج هذا التاريخ بهذا الدور التاريخي الذي لعبه في إنجاح ثورات الربيع العربي، مما زادَ من حَنَق وحقد وكراهية خَدَم وأنصار الجهات الثلاث عليه.
ولكن، ماذا عن الشيعة أنفسهم؟! وماذا عن خَدَم وأنصار الأنظمة الاستبدادية في بلاد العرب؟! وماذا عن أنصار وخدم المشروع الغربي الصهيوني؟!
فهل القرضاوي هو الخائن والعميل، وهؤلاء هم أرباب الشرف والعفة والوطنية والنزاهة والانتماء؟!
ماذا عنهم، أولئك الذين يتحدثون اليوم ويكيلون الاتهامات بالخيانة والعمالة من خلال وسائل الإعلام والصحف، وكأنهم أطهرُ الناس يَداً، وأبرهم قلوباً، وأكثرهم جهاداً للأعداء، ودفاعاً عن مقدسات الإسلام وأراضيه؟! بل إذا فتحت ملفاتهم تجد تاريخهم طافحاً بالخيانة، والعمل لصالح أعداء الأمة، بل منهم مَن يعتبر الخيانة والعمالة من القربات ومن الأعمال الصالحة التي تثقل ميزان الحسنات.
خصوم القرضاوي في الغرب أيضاً لم يتوقعوا أن يحمل هذا الصوت الوسطي تهديداً لمصالحهم، فكان هو - على غير المتوقع- حاملَ الراية الأول في ساحة النضال ضد التبعية للغرب، وكان هو الصوت الأكثر وضوحاً وتأثيراً في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية والجهاد المشروع ضد الاحتلال الصهيوني، وكان هو الصوت الأكثر قوة في دعم المقاومة والمقاومين، وفى رفض الحصار الظالم على غزة، وتحريض شعوب العالم الحر على كسره وإنهائه، لذلك كان سعي الغرب الحثيث -كسعي خدمة إيران وخدمة الأنظمة المستبدة- لإسكات صوت القرضاوي، فمنعته كثير من الدول الغربية من دخول أراضيها، وكان آخرها فرنسا.
إنه شيء واحد يجمع خصوم القرضاوي وأعداءه في الجهات الثلاث، حتى كأنه يجعلهم ويجمعهم في جهة واحدة، وهو العداء للوسطية التي يمثلها هذا الرمز الشامخ الأبي. الوسطية التي ظنوها ستنحني لمخططاتهم ومؤامراتهم وجبروتهم، فإذا بها تقف كحائط صد قوي ومرتفع دون تمرير تلك الخطط والمؤامرات، وكان هناك واقفاً بشموخ وكبرياء وعزة في أعلى هذا الحائط هذا الشيخ الإمام الثائر يوسف القرضاوي، الذي لن يسكت صوته إلى الأبد بإذن الله، رغم أنف المتطاولين المهزومين من خُدَّام هذه الجهة أو تلك.
.................
* كاتب وباحث في شئون الحركات الإسلامية
والمقال عن موقع الإسلام اليوم