الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

(أما بعد)

فإن القرآن العظيم هو الكتاب الوحيد الذي يتضمن كلمات الله الأخيرة إلى البشرية، وهو وحده - دون كل كتب السماء – الذي حفظه الله من كل تبديل وتحريف، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد تكفل سبحانه بحفظه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].

وكان وعد ربي حقا، فلم يزل هذا الكتاب محفوظا في الصدور، متلوا بالألسنة، مكتوبا في المصاحف، متعبدا بلاوته في الصلوات وخارجها في المساجد والمنازل، في السفر والحضر، حتى أن عشرات الألوف من المسلمين يحفظونه عن ظهر قلب، ومنهم صبيان لم يبلغوا العاشرة من عمرهم، ومنهم أعاجم لا يسقطون منه كلمة، ولا يخرمون منه حرفا، وهم لا يفهمون من العربية شيئا. وهذا من خصائص هذا الكتاب العزيز.

ومن نعم الله على أمة الإسلام أنها الأمة الوحيدة التي تملك مصدرا إلهيا معصوما، لم تخالطه أهواء البشر، ولا أوهام البشر، ولا انحرافات البشر، بل بقي مصونا كما أنزله الله تعالى، حتى إن المسلمين ليتلونه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتلونه بغنة ومده وحركاته وسكناته، وأنشأوا له علما يضبط اداءه، ويحفظ نظامه الصوتي، وهو (علم التجويد) ويلحق به علم (مخارج الحروف). كما أن المسلمين سلفهم وخلفهم أبوا إلا أن يبقوا على صورة المصحف كما كتب في عهد عثمان الخليفة الثالث رضي الله عنه، واتفاق الصحابة عليه، فلم يغيروا فيه إلا ما اقتضته الضرورة من النقط والشكل، ثم بقيت صورة الكلمات على ما كتبت عليه أولا، بالرغم من تطور قواعد الرسم والإملاء.

ومن هنا نتبين أن من خصائص هذا القرآن الخلود، بحكم حفظ الله له كما وعد في كتابه، لأنه آخر الكتب، كما أن من أنزل عليه هو آخر الرسل وأمته هي آخر الأمم، ورسالته هي خاتمة الرسالات، فليس هو كتاب جيل أو عدة أجيال، ولا كتاب عصر أو جملة أعصار، بل هو كتاب الزمن كله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولهذا القرآن خصائص أخرى، بجوار هذه الخصيصة منها:

أنه الكتاب المعجز، الذي تحدى العرب أن يأتوا بكتاب مثله، أو بسورة مثله، فعجزوا وانقطعوا، وحقت عليهم كلمة الله. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88].

فهو المعجزة الكبرى، والآية العظمى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورغم أن الله تعالى أيده بآيات وخوارق جمة، لم يتحد الناس إلا بالقرآن، وعندما طلبوا آية حسية كالآيات التي أيد بها الرسل، من قبل مثل موسى وعيسى عليهما السلام، رد الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].

وكان من أعظم وجوه إعجاز القرآن روعة نظمه، وإبداع بلاغته التي بهرت العرب مؤمنهم وكافرهم حتى قال بعض المشركين في شأن القرآن: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.. الخ.

ولم يقف تأثير القرآن عند الإنس، بل بلغ تأثيره إلى الجن، فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:201].

هذا إلى ما يتضمنه القرآن من جوامع الكلم، وجواهر الحِكم، وبدائع التشريع، وروائع التوجيه، وحقائق الوجود، ورواسي العقائد، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ما لم ير البشر مثله مجموعا بين دفتي كتاب.

ومن خصائص هذا الكتاب أنه كتاب مبين، ميسر للذكر والفهم، ليس ككتب الفلاسفة المليئة بالغموض والألغاز، وكتب العلم التي يقرؤها إلا فئة محدودة من أهل الاختصاص.

ولذا وصفه منزله بقوله {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف:1]. وسماه برهانا ونورا لوضوحه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174].

وبهذا يسره للفهم والذكر، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[الدخان:58]. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: 17، 22، 32، 40].

ومن خصائص هذا القرآن أنه كتاب عالمي، فكما أنه كتاب الزمن كله، هو كتاب العالم كله، فليس كتاب العرب وحدهم، وإن نزل بلغتهم، وليس كتاب أهل الشرق وحدهم، وإن بعث الرسول من بينهم.

إنه كتاب رب العالمين لكل العالمين، عربا وعجما، شرقا وغربا، بيضا وسودا، حكاما ومحكومين، أغنياء وفقراء، فهو كتاب الأجناس وكل الألوان، وكل الأوطان، وكل الألسنة وكل الطبقات.

يقول منزله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[ص:87]، {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1].

فغايته إخراج الناس كل الناس، من ظلمات الشرك والضلال والغي والانحراف، إلى نور التوحيد والهدى والرشد والاستقامة. ولا غرو أن يكون القرآن كتابا عالميا، فإنه كتاب الإسلام، وهو رسالة عالمية، كما قال تعالى لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ:28].

والقرآن وإن كان عالمي الدعوة والخطاب، عربي اللسان، فقد اختار الله لسان العرب لينزل به كلامه المبين، وذكره الحكيم. كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:192-195].

وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:27-28]. إلى غير ذلك من الآيات التي أثبتت عربية القرآن، ومن ثم أجمع علماء الإسلام كافة على أن القرآن هو اللفظ العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المنقول بالتواتر والمدون بين دفتي المصحف.

هنا نشأت مشكلة وهي: كيف نبلغ القرآن إلى غير العرب؟ وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم:4].

فإذا كان الرسول مبعوثا للعالمين، للناس جميعا، للناس كافة فكيف يبين لهم وكتابه عربي، ولسانه عربي؟

وكيف يتوجه السؤال إلى أمته من بعده: كيف يفهمون القرآن لغير العرب؟ هل يعجمون القرآن حتى يفهمه العرب؟ أو يعربون الأعاجم حتى يفهموا القرآن؟

كانت سيرة الصحابة والمسلمين الأوائل أن يعربوا الأعاجم حتى يفقهوا القرآن، ويفقهوا الإسلام. لهذا انتشر الإسلام والعربية معا، في مصر وشمال أفريقيا وفارس وغيرها، استعرب أهل هذه البلاد أو كادوا، حتى غير المسلمين منهم، ولو استمر الأمر على هذا المنوال ما كان لدينا الآن عالم عربي، وعالم إسلامي. ولكان العالم الإسلامي كله عربيا!

ولكن الذي حدث أن اتسع نطاق الإسلام، وضاق نطاق الاستغراب. بل انتكست بعض البلدان، فارتدت من العروبة إلى العجمة، وأصبح العرب قلة في المسلمين –أي نحو السدس تقريبا- فالمسلمون نحو ألف ومائتي (1200) مليون، والعرب نحو مائتي مليون.

كيف نوصل القرآن إلى غير المسلمين في العالم، ولهم لغات ولهجات لا يحصيها إلا الله؟

إن غير المسلمين لم يجدوا أي مشكلة في ترجمة كتبهم المقدسة إلى أي لغة. فإن هذه الكتب قد أصابها ما أصابها من الحذف والتبديل والتحريف، بل إن بعضها لم يعد موجودا بلغته الأصلية، التي نزل بها، كما هو شأن الإنجيل، ولم يكن لأي منها ما للقرآن من خصوصية الإعجاز.

ولكن القرآن العربي المعجز ببيانه ومعانيه غير تلك الكتب. لهذا كانت ترجمته إلى اللغات الأخرى من القضايا الكبيرة التي ثار حولها الجدل، واشتدت المعركة بين المجيزين والمانعين، وحشد كل فريق فيها أسلحته، ودخل في الميدان رجال كبار من كلا الطرفين. وبعد مدة وضعت هذه الحرب أوزارها، وأسفرت عما يشبه الإنفاق على جواز ما اصطلح على تسميته (ترجمة معاني القرآن).

ولكن هذا اللون من المعارك العلمية لا يخبو بصفة دائمة. فهو قابل للاشتعال، إذا تهيأت الأسباب.

ولا غرو أن تثور المسألة بين الحين والحين، وخصوصا كلما وجد بعض المسلمين الغيوريين بعض الترجمات للقرآن تعمد إلى تشويه جمال القرآن، وجلال القرآن؛ لأن الذين يقومون بها إما غير مسلمين أصلا وأغلبهم من الطوائف الدينية المعادية للإسلام. وإما الفرق التي تنبثقت عن الإسلام، وخرجت على أمته وإن ظلت تتظاهر بأنها جزء من أمة الإسلام.

وهذا الموضوع هو الذي شغل فكر الأخ الكريم والصديق الغيور الدكتور حسن المعايرجي منذ سنين، وكونه مشاعر الأسى والغضب من أجله. فقد أهمه وأحزنه ما يقوم به غير المسلمين من ترجمات مضللة للقرآن، وكذلك المارقون ممن يتسمون بأسماء المسلمين. وعكف على دراسة القضية وحشد المعلومات اللازمة حولها من قارات الدنيا، وتجميع التراجم للقرآن من كل اللغات التي يستطيع الوصول إليها، بطريقة أو بأخرى حتى كون من ذلك مكتبة كبيرة في بيته، واتصل بكل من يمكنه من قادة الدعوة والفكر في العالم الإسلامي، رجاء تقديم حل عملي للمسألة.

وكتب في ذلك هذه الدراسة التي أقدمها للقارئ اليوم، وهي عصارة جهود استمرت سنوات وسنوات.

ترجمة للتفسير لا المعاني:

وخلاصة ما تهدف إليه هذه الدراسة أمران أساسيان: أحدهما: علمي، والآخر: عملي.

فأما العلمي، فهو يرى أن يتوقف المسلمون عن ترجمة القرآن، سواء كانت ترجمة حرفية، أم ما سمي (ترجمة معاني القرآن).

فإن كتاب رب العالمين ر يترجم وإنما يفسر. فإن كان لا بد من ترجمته فليس المسلمون هم الذين يقومون بها، بل غير المسلمين لبواعث وأهداف خاصة عندهم، وقد بدأوا ذلك من قرون، ولا زالوا مستمرين، وسيظلون كذلك.

وهو يقول بصراحة في ختام مدخله إلى الكتاب: إن المسلمين يفسرون القرآن لحاجتهم لفهم معانيه، وغير المسلمين يترجمون القرآن ليحرفوا الكلم عن مواضعه. ومن أراد القرآن فعليه بالعربية، فإن لم يستطع فالتفسير المترجم يكفيه حتى يتعلم العربية، فالقرآن الكريم لا يعجم لأحد بل علة المسلم يأن يتعرب للقرآن. ا هـ

وإني مع كاتب هذه الدراسة في أن ترجمة تفاسير القرآن العظيم بلغات العالم المختلفة، هي التي يجب أن تتوجه إليها الهمم، وهي الأولى بالعناية وصرف الجهود والأموال من ترجمة المعاني.

ولكن لا أستطيع أن أقول: أن ترجمة المعاني حرام، ويجب منعها منعا مطلقا، إنما الذي يلزم منعه وسد الباب إليه بشدة هو الترجمة الحرفية. أما ترجمة المعاني فلا مانع منها، إذ قام بها مسلمون ثقات مؤهلون لهذا العمل، متضلعون من لغة القرآن ومن فهم الإسلام، ومن اللغة التي تنقل إليها المعاني، بل ينبغي أن تشرف على ذلك بعض الجهات الإسلامية القادرة على ذلك. وأن يتفق على المعاني الأساسية، التي تفهم من النص القرآني، ويراد ترجمتها إلى اللغة الأخرى، وكذلك على الألفاظ التي ينبغي أن تبقى على عربيتها، وتفسر معانيها، مثل لفظ الجلالة (الله) والصلاة والزكاة والحج ونحوها مع حواشيها، وعلى الحواش التي يجب أن تضاف لشرح أسرار بعض الآيات أو الفقرات بالإضافة إلى مقدمة تبين مقاصد القرآن وخصائصه، وأن هذه المعاني المترجمة ليست هي القرآن.

وبهذا تكون (المعاني المحررة المنضبطة) بمثابة تفسير موجز أو مركز للقرآن العزيز.

وأعتقد أن الأخ الدكتور المعايرجي لا يمانع في ترجمة المعاني بهذه الصورة المحددة، وهذا ما جرى عليه العمل، وأقره أهل العلم في العالم الإسلامي، وإن لم يخل من قصور، وهو يلبي حاجة حقيقية لا غنى عنها. وإذا لم يقم المسلمون بهذا العمل فسيقوم به غير المسلمين، وأولى بنا نصرح ببعض الترجمات للمعاني بالضوابط والشروط التي نضعها ونعترف بها، وما عداها نرفضه ولا نقر به، ولا يمثل إلا رأي كاتبه.

الهيئة العالمية للقرآن الكريم:

وأما الأمر العملي الذي يهدف إليه، فهو التنبيه بقوة على ضرورة إقامة مؤسسة إسلامية عالمية، تقوم على رعاية كل ما يتعلق بالقرآن، وتبليغ دعوته وتعاليمه إلى المسلمين أولا، وإلى العالم كله ثانيا، بلغاته المختلفة، وهو يؤكد هنا أن مهمة التبليغ هذه التي قصر فيها المسلمون تحتاج إلى مؤسسة قرآنية عالمية للعناية بالقرآن الكريم وتفسيره بكل لسان، وطبعه وتوزيعه، ورصد ما يظهر من الترجمات والتفاسير والطبعات في شتى بقاع العالم، وإصدار دليل بالتفاسير الجيدة، والتحذير من الترجمات الفاسدة، وتتبع الناشرين للترجمات الفاسدة قضائيا، ودراسة حاجات المسلمين من التفاسير الجيدة، ومعرفة الأولويات لمشاريع ترجمة التفاسير المختلفة، وهي عملية دقيقة تدخل فيها عوامل كثيرة، ويمكن أن تنبع هذه المؤسسة العالمية عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي انبثقت عنه أجهزة ومنظمات كثيرة في شتى نشاطات العمل الإسلامي، وأن تمثل هذه المؤسسة القرآنية الدول الأعضاء في خدمة كتاب الله الكريم والدفاع عنه.

وقد خصص في خواتيم دراسته عدة صفحات لمشروع هذه المؤسسة أو (الهيئة العالمية للقرآن الكريم) وبيان مهمتها، وتوضيح أهدافها ووسائلها، حتى أنه تحدث عن الأقسام والإدارات التي ينبغي أن تضمها هذه الهيئة، وعن طريقة تمويلها، وغير ذلك من التفصيلات. وأضاف إلى ذلك عمل تخطيط مبسط، لما يمكن أن تكون عليه إدارات هذه الهيئة المنشودة وأجهزتها.

وإني لأضم صوتي إلى صوت الكاتب الغيور، وأدعو إلى تكوين هذه (المؤسسة القرآنية العالمية)، وينبغي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أن تبادر بإنشاء هذه الهيئة لتنضم إلى أخواتها من المؤسسات الإسلامية العالمية، مثل: المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، والمجمع الفقهي الإسلامي، ومنظمة الإذاعات الإسلامية، وغيرها.

ويمكن لهذه المؤسسة أن تضم بعض الهيئات القائمة الآن في أقطار شتى لخدمة القرآن، مثل هيئة الإعجاز العلمي للقرآن برابطة العالم الإسلامي وغيرها. وإن شاء القرآن لجدير بذلك وما هو أكبر منه. وإن أمة أكرمها الله تعالى بالقرآن، لخليق بها أن تعمل لخدمة هذا الكتاب وحياطته وتبليغ دعوته.

ولقد قرأت الكتاب الذي صدر عن المؤتمر التنصيري الشهير الذي انعقد في (كلورادو) بالولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1976م، لتنصير المسلمين في العالم، وقد ترجمه أخيرا المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وهالني ما قرأته عن الجهود المكثفة التي يقوم بها رجال الكنيسة، من أجل الإنجيل ونشره إلى كل لغات العالم ولهجاته وطباعته بصورة وأساليب شتى بين المسلمين، ومن ذلك أن يطبع على شكل المصحف، محاطا بالزخارف الإسلامية.

هذا بعض ما يصنعه أهل الباطل لباطلهم، فأين ما يصنعه أهل الحق لحقهم؟!

لعل هذه الصرخة المخلصة، وهذا النداء الصادق، من رجل يحترق فؤاده غيرة على القرآن، تنبه الغافلين، وتحرك الجامدين، وتدفع إلى عمل إيجابي يلائم مستوى القرآن وأمة القرآن، ويلائم مستوى العصر الذي نعيش فيه، ويلائم مستوى ما يقدمه الآخرون لديانتهم وكتبهم.

ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

الدوحة: جمادى الأولى 1412هـ

نوفمبر 1991م