د. يوسف القرضاوي
إن (العقلانية) فى القرآن أمر واضح تمام الوضوح، لا يخطئه أى قارئ للقرآن برىء من العصبية والتقليد، بل يجدها مبثوثة فى ثنايا سوره: مكية كانت أو مدنية، وليس هذا قول المسلمين وحدهم، بل هذا ما شهد به كثير من الغربيين المنصفين بوضوح.
شهادة جاك بيرك:
وآخر من قرأنا لهم ذلك: ما قاله كبير المستشرقين الفرنسيين المعاصرين، أو كما يُعبِّر هو عن نفسه بأنه (مستعرب) وليس ب (مستشرق)، وهو العالم الاجتماعى الكبير المعروف فى عالم الفكر والثقافة: الأستاذ (جاك بيرك)، الذى ترجم معانى القرآن إلى اللغة الفرنسية، بعد أن قضى فى ذلك، عشرين عاما أو تزيد، وقال فى ذلك: (لقد تبينت لى بوضوح (عقلانية القرآن) فى كلِّ سورة من سوره، وفى كلِّ آية من آياته، وذلك ثمرة مصاحبة ومعايشة طويلة للقرآن).
شهادة ماكسيم رودنسون:
وهناك شهادة أخرى أكثر تفصيلا وبيانا، نجدها فى فصل (العقيدة القرآنية) من كتاب الكاتب اليهودى الماركسى الفرنسى المعروف (ماكسيم رودنسون)، الذى ألّفه عن (الإسلام والرأسمالية). فرغم ما فى الكتاب من مآخذ، نجده ينصف الإسلام ـ أو القرآن ـ فى هذا الجانب، ولا بأس أن أنقل بعض فقرات من هذا الفصل.
يقول (رودنسون): (القرآن كتاب مقدس، تحتل فيه العقلانية مكانا جد كبير، فالله لا ينفك فيه يناقش ويقيم البراهين. بل إن أكثر ما يلفت النظر هو أن الوحى نفسه، هو الوحى الذى أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور،وعلى خاتمهم محمد، يعتبره القرآن هو نفسه أداة للبرهان. فهو فى مناسبات عديدة يكررلنا أن الرسل قد جاءوا بالبيّنات. فإذا تساءلت: ما الذى يضمن صحة الدلالة فى هذه البينات، بدا لك أن هذه الضمانة ـ لدى محمد ـ تكمن فى معايير من التلاحم الداخلي، من التوافق الجوهرى بين مختلف ما أنزل من وحى فى حقب مختلفة، على شعوب مختلفة، وبواسطة رسل مختلفين. بل إن الوحى الذى أنزل على محمد نفسه: يضمنه أنه متماثل جوهريا مع الوحى الذى أنزل على غيره من قبل، والذى يبدو له أمرا وثَّقه التاريخ. وهو لا يألو يتحدى معارضيه أن يأتوا بوحى مثله، وحى يحمل نفس السمات الإلهية شكلا ومضمونا، أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى مما أنزل على موسى وعلى محمد ... فإذا لم يقبلوا هذه المعايير، ففى المستطاع اللجوء إلى محاكمة تماثل (الرهان) المعروف لدى (باسكال). وذلك هو ما يفعله (مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) دفاعا عن موسى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّى اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ [غافر:28].
والقرآن ما ينفك يقدم البراهين العقلانية على القدرة الإلهية: ففى خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتوالد الحيوان، ودوران الكواكب والأفلاك، وتنوع خيرات الحياة الحيوانية والنباتية، تنوعٌ رائع التطابق مع حاجات البشر، لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ [آل عمران:190].
يقول المؤلف: وفعل (عقل) بمعنى: ربط الأفكار بعضها ببعض، فهو (البرهان العقلي) يتكرر فى القرآن حوالى خمسين مرة. ويتكرر ثلاث عشرة مرة هذا السؤال الاستنكاري، وكأنه لازمة: (أفلا تعقلون)؟ والكفار، أولئك الذين يرفضون الاستماع إلى دعوة محمد، يوصفون بأنهم (قوم لا يعقلون)، لأنهم قاصرون عن أى جَهْد عقلى يهز تقاليدهم الموروثة، وهم بهذا كالجمادات والأنعام، بل أكثر عجمة، ولذلك كان الأب (هنرى لامنس) على حق فى قوله: إن محمدا (ليس بعيدا عن اعتبار الكفر عاهة من عاهات الفكر البشري)!
فالكفار – ككل المحافظين فى كلِّ العصور – يقولون إنه يكفيهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم، ومحمد – ككل المجددين – تستثيره هذه الحماقة: أفلا يدركون أن آباءهم قد أهملوا فكرهم قبل أن يضعوا قواعد حياتهم؟ ولذلك يكره الله هؤلاء الناس، الذين لا يريدون أن يعيدوا النظر فى أسس تفكيرهم. ولئن كان يرسل الآيات على وجوده وإرادته، وأهمها الآيات المنزلة على نبيه محمد، فلكى يفهمها الناس، ويجعلوا منها أساسا لتفكيرهم. ونرى الله يقدِّم البينة الفاصلة، ثم يختتم البرهان بقوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:28]، ولما كان الإنسان حرا، الله فعله هو أن يضع أمامهم هذه الآيات، هذه البينات التى ستكون حاسمة قاطعة بمجرد أن يعملوا حواسهم، وملكة المحاكمة فيهم. فإن فعلوا فلعلّها تهديهم إلى الإيمان. فإن اهتدوا كانوا (عالمين)، وكان لهم نصيب مما جاء الرسول من العلم، هذا العلم الذى هو نقيض الجاهلية والجهل، جهل الإنسان البدائى قبل الوحى الذى يأتى بالحق والصدق. وأما من ظل على كفره فهو الجاهل بإرادته، ذلك الذى يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ[لقمان:20] ولأمثال هذا يجب أن يقال: هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148].
على أن الفهم العقلى للحقيقة لا يكفى وحده، فيهود المدينة مثلا كانوا يفهمون الدعوة كل الفهم، ولكنهم كانوا لا يلبثون أن يحرفوها عامدين. وكذلك ينبغى الانتقال من العقل المحض إلى العقل العملي، وإدراك أن الخير والمصلحة هما فى اتباع ما أمر به الله، والالتحام بالجماعة التى يبنيها رسوله بأمر منه).
اللاهوت القرآنى فى دقة الرياضيات:
وينقل (رودنسون) عن دراسة لـ (شارل توراى) عن مصطلحات اللاهوت فى القرآن قوله: ( من الصعب أن يتصور المرء لاهوتا أكثر (دقة رياضية)، ودقة الرياضيات تفترض العقلانية، وهذا بالطبع لا يعنى أن كل الأشياء، فى هذه العقيدة القرآنية، تُدرك بالعقل، فكثير منها لا يبلغه العقل، وهذه بالذات آية من آيات الله على قدرته وعلى إحاطة علمه، وهذه الأشياء التى لا قِبَلَ للعقل البشرى أن يدركها بقوته وحدها، يكشف الله للناس عن بعض منها بواسطة أنبيائه، أما باقيها فيظل إلى الأبد فى عالم الغيب، ومهمة العقل هى أن يفهم صدق ما تقوله رسالات الرسل عن المجهول الذى لا طاقة له على معرفته، وأن يدرك أيضا أن مصلحته هى فى إطاعة تعاليمهم.
وبعد حديث طويل عن العهدين القديم والجديد، وموقف الآباء والأحبار من العلاقة بين الإيمان والعقل، ينقل عن القديس الشهير (توما الأكويني) فى القرن الثالث عشر الميلادى قوله: (إن صفات الله غير المرئية يحيط بها الإيمان بطريقة لا يستطيعها العقل الطبيعى حين يرقى من المخلوقات إلى الخالق)، (مثلا إذا رفض المرء – أو لم يرد حقا – أن يؤمن إلا بواسطة العقل الإنساني، فإن إدخال العقل يحط من قدر الإيمان)!.
ويعقب (رودنسون) على ذلك بقوله: (فى مقابل هذا، تبدو العقلانية القرآنية صلبة كأنها الصخر)!
ــــــــ
- عن كتاب "موقف الإسلام من العقل والعلم" لفضيلة الشيخ.