د. يوسف القرضاوي

الإسلام لم يكلّف المسلمين بعلم الدين وحدَه، بل كلّفهم بعلوم الدنيا مع علوم الدين. لقد علمنا الإسلام أن الإنسانَ لا يمكن أن يعيش بالدين وحده، إنما يمكن أن يعيش بالدنيا فقط، أو بالدين والدنيا معا. كما حكى لنا القرآنُ أصنافَ الناس فى موسم الحج. قال تعالى: "فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة:200-201]. ولم يذكر القرآن من يطلب من الله تعالى الدين وحده، وكأن مِثْلَ هذا لا يوجد.

وهذه هى طريق الإسلام: طلب الحسنيَيْن: حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة. كما أثاب الله به المؤمنين الصالحين، فقال: "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [آل عمران:148].

لهذا يجب هنا أن ننوّه بعلوم الدنيا، التى على المسلمين أن يطلبوها ويحصّلوها، ويتفننوا فيها، حتى يبلغوا درجة إتقانِها، ويتقنوا قوانينها، ويخترعوا ويبدعوا، كما فعلوا فى أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث ترجموا علوم الأوائل، أى: الأمم القديمة، وأحسنوا تعلمها، وأحكموها، وبدأوا ينتقدونها، ويضيفون إليها من عندهم ما لم يكن فيها، كما اخترعوا علم (الجبر)، وقد أضافوه إلى الرياضيات.

وكان لهم دورهم فى علوم الفلك والفيزياء والكيمياء، وعلم الأرض، وعلم البحار، وعلم الجغرافيا وتقويم البلدان، وعلم الطب والتشريح. وعلوم الفلسفة والحكمة، وقد كانت مختلطة بعلوم الطبيعة وغيرها.

المهم أن هذه العلوم فرضٌ على المسلمين فى مجموعهم أن يتعلموها، وأن يُحْكِموها. وليس صحيحا ما قاله الإمام الغزالى من وجوب الاقتصاد فى تعلمها، وكراهة التوسع فيها، فربما قُبل مثل ذلك فى عصره لظروف وملابسات كانت تقتضى ذلك، ولكن عصرنا لا يمكن أن يبلغ المرء مبلغه من هذه العلوم ما لم يتوسع فيها، ويصل إلى حد التفوق على الآخرين، واكتشاف الجديد منها، وتوسيع آفاقها.

وقد كنا نرى السباق المحموم بين العملاقين الكبيرين فى الأرض: الكتلة الغربية بزعامة أمريكا، والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتى، وخصوصا بعد سقوط ألمانيا الشرقية، ومحاولة كل من العملاقين اكتساب  ما عندها من أسرار نووية وغيرها.

أما العالم الإسلامى، فكان خارج هذا السباق، وهذا الصراع، كان هو السوق التى تباع فيها أشياؤهم وأسلحتهم، بعد أن يأخذوا الأهم منها لأنفسهم.

لقد عرفنا فى ساحة علوم الدنيا أسماءً كبيرة إسلامية، كان لها وزنها وثقلها فى تاريخ العلم والفكر العالمى، فقد سمعنا عن الكِنْدى، والفارابى، وابن سينا، وابن رشد، والرازى، والزهراوى، وابن النفيس، والخوارزمى، وابن حبان، والبيرونى، والفخر الرازى، وغيرِهم وغيرهم.

ثم عدنا إلى الوراء، ونمْنا وهم استيقظوا، وقعدْنا وهم تحركوا، وتأخرْنا وهم تقدموا، وركبنا إبلنا بعد أن ضعفت وعيتْ، وركبوا هم السيارات والقطارات، ثم الطائرات والصواريخ والغواصات.

ولا زلنا إلى اليوم نحاول أن ننهض فلا نكاد ننهض، إلا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن بين أيدينا ومن خلفنا مَن يثبّطنا، ويضرب بعضُنا ببعض، ويلهينا بعلم لا ينفع، وبأدعية لا تُسمع، وبأعمال لا تُرفع؛ لأنها صادرة من قلوب لله لا تخشع، ومن أنفس من الدنيا لا تشبع.

إننا لكى نكون كما أحب الله لنا: "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران:110]، ولكى نكون: "شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [البقرة:143]، وأن نحقق قول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" [الأنفال:60]، لا بد لنا: أن نصل بين القوة العلمية والتكنولوجية إلى الحد الذى نتفوق فيه على عدونا، من القوة البشرية المدرّبة، ومن رباط الخيل، وهو الآن: رباط المدرّعات، والدبّابات، والمصفّحات، والطائرات وغيرها؛ لهذا لا بد أن نكون متفوقين فى علوم الدنيا، لنكون أقوى من غيرنا، إن كنا نريد أن نحيا أعزاء كما كتب الله لنا: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون:8].

ــــــــ

- عن كتاب "موقف الإسلام من العقل والعلم" لفضيلة الشيخ.