د. يوسف القرضاوي

الإسراف في المأكل:

ينبغي للأمَّة أن تتحكَّمَ في شهواتها، نحن نسرف في كلَّ شيء، نسرف في المأكل إذا أكلنا، نأكل أكل الشرهين، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا آداب الأكل، أن نحسن الأكل إذا أكلنا، "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"[1]. ولا تأكل من وسط الصحفة، كلُّ هذا تعليم: ألا يأكل الإنسان بشراهة، وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"[2].

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فحُلبت فشرب الكافر حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يشرب في معي واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء"[3]. هو ليس عنده سبعة أمعاء، كلُّ إنسان له معي واحد، وإنِّما هذا كناية عن أنَّ هذا لا هدف له إلاَّ أن يأكل، هو إنسان شره، إنسان نهم، ليس عنده شيء يشغله، همُّه بطنه، ومن كان همُّه بطنه فقيمته ما يخرج منها، ولكنه عندما أسلم تغيَّرت فكرته، وتغيَّرت نظرته، واكتفى بقدح واحد، ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم ما قال.

إلقاء الطعام الكثير في سلال القمامة:

ليس المهم في كثرة ما يُؤكل، لأنَّ الإنسان مهما أكل فإن معدته محدودة، إنَّما الأهم في كثرة ما يُلقى، كثرة ما يُطرح من فضلات الطعام، انظروا إلى الطعام الذي يُلقى يوميًّا، فضلات لإنسان يغرف ويطمع ويملئ الطَّبق، ثمَّ يأكل نصفه، ويلقي الباقي في سلة المهملات. لِمَ هذا؟ خذ على قدرك، العق الصحفة. لعق الصحفة معناها في عصرنا: ألا تبقي فضلةٌ في صحنك، سواء كنت تأكل بالملعقة أو باليد، فإنك لا تدري أين تكون البركة، كما في الصحيح عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: "إنكم لا تدرون في أيِّه البركة"[4].

من المسلمين من لا يجد لقمة:

لا ينبغي أن يُبالغ الناس في هذا الأمر، تمتلئ هذه الأوعية أوعية القمامات بفضلات الطعام، كثيرًا ما أحضر بعض الولائم، وفيها من الخراف والأرز ما شاء الله، ولا يأكل الحاضرون عُشر الموجود، أقل من العشر، ولا أدري ماذا يحدث بعد ذلك، ولكني أسأل: فيُقال: يأتي أناس بعدنا يأكلون، ثم أناس آخرون، ثم تبقى أشياء كثيرة تُرمى في سلال القمامة، هل هذا يجوز؟ وهناك من المسلمين مَن يبحث عن اللقمة فلا يجدها، هناك مَن لا يجد قوت يومه، مَن لا يجد الطعام الخشن، ونحن نلقي اللحوم والأرز وهذه الأطعمة في أوعية القمامة، هذا أمر لا يجوز، النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول: "إذا ما وقعت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يَدَعها للشيطان". وأمرنا أن نسلت الصحفة، وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"[5].

سقوط اللقمة لا يعني أن ترمي بها، ولكن خذها ونظِّفها، ثمَّ تناولها ولا تتركها للشيطان، كلُّ ما يُترك ولا يُنتفَع به فمصيره إلى الشيطان، والشيطان كناية عن الضياع. المسلم مُطالَب إذا سقطت لقمة ألا يتركها. لقد أدركنا عهدًا كان فيه الناس إذا سقطت لقمة في الطريق أخذوها وقبَّلوها، وقالوا: هذه نعمة لا ينبغي أن تُرمَى. ولكن الناس حينما فتح الله عليهم، ووسَّع لهم في الأرزاق، وأفاء عليهم من فضله، لم يعرفوا قدر هذه النعمة فضيَّعوها.

الإسراف في المسكن:

الإسراف في المطعم، والإسراف في المشرب، والإسراف في المساكن، الذي يبني قصرًا يكلِّفه الملايين، كم يحتاج إليه من هذا القصر؟ كم غرفة يحتاج إليها، لماذا هذا التوسُّع؟ ولماذا الأثاث المُترَف؟ ولماذا التحف الثمينة؟ ولماذا .. ولماذا؟ إنها أموال يحتاج المسلمون إليها، وبعض ما يُنْفَق في هذه الأمور لو ينفق في مساعدة المحتاجين، أو في إطعام الجائعين، أو في إيواء المشرَّدين، أو في علاج المرضى، أو في معاونة المجاهدين، لو أُنفق بعض هذا لكان خيرًا.

كما قال عمر بن عبد العزيز لأحد أبنائه وأقربائه حينما بلغه انه اشترى خاتمًا فصُّه بألف درهم، بعث إليه يقول: أما بعد: فقد بلغني أنك اشتريتَ خاتمًا فصُّه بألف درهم، فإذا بلغك كتابي هذا، فبعه، وأطعم بثمنه ألف جائع، واشتري خاتمًا فصُّه من حديد، واكتب عليه: "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه"[6].

قال لي بعض النَّاس: إنَّ رجلاً بنى قصرًا، وكلَّف حجرة نومه كذا مليونًا من الليرات اللبنانيَّة! وكانت الليرة اللبنانيَّة أكثر من الرِّيال في ذلك الوقت، قال: ولكنه انتهى إلى غرفة هي أقل من مترين في متر. أي انتهى إلى القبر، وترك هذا وراءه.

أهل الشِّمال هم المترفون:

ماذا يغني عن النَّاس هذا التَّرف؟ لماذا نصنع صنيع المترفين، ونسير سيرة المترفين، الذين ذكر الله لنا أنَّهم من أهل الشِّمال، من أهل الحميم والنَّار والعياذ بالله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41-45]، هذا شأن أهل النار.

الفرق بين الترف والسرف:

التَّرف: زيادةٌ عن السَّرف، السَّرف: تجاوز الحد.

أمَّا التَّرف: فهو المبالغة في التنعُّم والرَّفاهية، واستخدام الأدوات التي تفوق الوصف. مع أنَّ الأدوات الطبيعيَّة من نعم الله علينا في عصرنا، الإنسان العادي منَّا عنده من أدوات الراحة التي تُدْفئ له الجو إذا برد، وتُبَرِدُه إذا سخن، وتهيئ له الأسباب، وتُقَرِب له البعيد. العلم العصري والتكنولوجيا العصريَّة أصبحت في متناول الجميع، في متناول الشخص العادي، لماذا الترف البالغ؟ هذا للأسف ما أُصيبت به أمَّتنا.

الإسراف في الرِّياضة:

نحن نُسْرِفُ في المأكل والمشرب، ونُسْرِفُ في الملبس، ونُسْرِفُ في المسكن، ونُسْرِفُ في أمورٍ أخرى كثيرة، نسرف في الرياضة مثلاً، الإسلام يحث على رياضة الأجساد، و"المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف"[7]. والإسلام يحبُّ من المسلم أن يكون جسمه مرنًا وقادرًا على الحركة، ولكن يحبُّ أيضًا أن يكون جسمه خشنًا، كما جاء: "تمعددوا واخشوشنوا"[8]. تمعددوا: كونوا كمعدن بن عدنان، الذي كان رجلاً خشنًا قويًا.

اخشوشنوا فإن النَّعْمَة لا تدوم, ولذلك حرَّمَ على الرِّجال لبس الحرير والتحلِّي بالذهب[9]؛ لتبقى للرجل خشونته، ولا يكون الرجل شبيهًا بالمرأة.

جاء الإسلام فحرَّض المسلمين على أن يكونوا أقوياء في أجسامهم، ولكن ليس معنى هذا أن يُسرف النَّاس في الرِّياضة كما نرى في عصرنا.

أصبحت الكرة كأنها وثن يُعْبَد، لعب الكرة كأنما أصبحت صنمًا يُعْبَدُ من دون الله، نرى ألوانًا من السباق، لا بأس أن يتعلَّم النَّاس سباق الخيل على أن يركبوا خيلهم، كما جاء في الأثر عن عمر رضي الله عنه: علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية[10]. فروسية يمارسها الناس بأنفسهم، ويُدّرِّبون عليها أبناءهم، لا أن نأتي بالخواجات يركبون لنا الخيل.

ممارسة الرياضة تكون لهدف وبقدر:

نتعلَّم أنواع الرِّياضة، وأنواع السباقات، ولكن على أن يكون لنا هدف من وراء هذه الأشياء، وأن تكون هذه الأشياء بقدر، تأخذ من أوقاتنا بقدر، ومن أموالنا بقدر.

ميدانٌ لسباق الكلاب:

آخر ما قرأتُه أنَّ ميدانًا أُعِدَّ لسباق الكلاب، تكلَّف أكثر من عشرة ملايين لماذا؟ ليتسابق فيه الكلاب! يا للعجب! وإذا تسابقت الكلاب وسبق كلب كلبًا آخر، ما النتيجة، من وراء هذا، وما الفائدة من هذا؟ قالوا: هذا لجذب السيَّاح، من أجل السيَّاح، وهل من أجل جذب السيَّاح، ينبغي أن يتنازل النَّاس عن قيمهم؟ وينبغي أن يخرج النَّاس عن أعرافهم، وينبغي .. ما هذا؟

هذا هو الإسراف الذي ابتليت به هذه الأمة.

الإسلام لا يمنع اللهو والتَّرويح:

الإسلام أجاز لنا اللهو، لا مانع أن نلهو، وأن نروِّحَ عن أنفسنا، وكما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لحنظلة: "يا حنظلة، ساعةً وساعة"[11].

ساعة وساعة، لا يمكن أن تكون كلُّ السَّاعات في العبادة والطَّاعة، لا بدَّ أن يَلْهُو الإنسان، وأن يُرَفِّهَ عن نفسه، هذه هي طبيعة الحياة، وهذه هي طبيعة الإنسان، ولكن أن يصبح اللهو مسيطرًا على الإنسان، أن تصبح الملاهي هي التي تتحكَّم في الإنسان، أن يصبح الَّلاهون والمطربون والمطربات هم الذين يملئون حياتنا، وهم نجوم المجتمع، وهم الذين يتحدَّث النَّاس عنهم، وتقام لهم الحفلات والمهرجانات!

لقد خرجنا من الصيام، صمنا إيمانًا واحتسابًا، وقمنا إيمانًا واحتسابًا، ونقول: اللهم تقبَّل صيامنا وقيامنا، وإذا بهؤلاء يملئون الليالي، ويملئون السَّاحات، ما هذا؟ هذا كلُّه من الإسراف. اللهو مطلوبٌ ولكن في حدود، ليس إلى هذا الحدِّ من التَّوسع، والإسراف، فإن الله لا يحب المسرفين.

الإسراف في الوقت:

نحن نُسْرِف في الوقت، الوقت نعمةٌ عظيمةٌ كما قال القرآن: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، ولكنَّا نستخدم الوقت بحماقة، وبغير حكمة، ننفق هذا الوقت فيما ينفع، وفيما لا ينفع، فيما هو طاعة وفيما هو معصية، لا نبالي أن نستخدم أوقاتنا فيما لا يحبُّ الله ويرضاه.

الله تعالى سائلنا عن أوقاتنا، من الأسئلة الرئيسة التي توجَّه للإنسان يوم القيامة سؤلان، يُسأل "عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه"[12]. سؤلان يختصَّان بالوقت، يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فَلْيُحَضِّر الإنسان للسؤال جوابًا، هناك أناسٌ سفهاء يبدِّدون الوقت، السفيه الذي يبدِّد المال يحجر عليه في الفقه، ولكن ليس هناك للأسف أحكامٌ تتعلق بالحجر على مَن يبدد وقته. ووقته هو حياته وهو عمره.

قتلة الوقت:

هناك قتلةٌ للوقت، يقتلون أوقاتهم، يقول أحدهم لصاحبه: تعالى نقتل الوقت! نتسلَّى بلعب الورق، بالسَّهر في غير فائدة، بالكلام عن فلان وفلانة، وعن علان وعلانة، كلُّ هذا قتلٌ للوقت، وهذا القتل لا عقاب عليه، ولا يدري هؤلاء المساكين أنهم حين يقتلون أوقاتهم، إنما يقتلون أنفسهم وهم لا يشعرون، ينتحرون انتحارًا بطيئًا غير مرئي حينما يقتلون أوقاتهم، التي وهبهم الله إيَّاها، نحن مسرفون في كلِّ شيء، مسرفون في مآكلنا ومشاربنا، مسرفون في مساكننا ومراكبنا، مسرفون في ملابسنا وفي تجمُلنا، مسرفون في شراء الأشياء، مسرفون في اللهو والترويح، مسرفون في استخدام الوقت، وهذا كلُّه مرضٌ من الأمراض، ينبغي للأمة أن تعالجه.

لا يمكن لهذه الأمَّة أن ترقى من هبوط، لا يمكن لهذه الأمَّة أن تقوى من ضعف، لا يمكن لهذه الأمَّة أن تسعد من شقاء، لا يمكن لهذه الأمَّة أن تتبوَّأ مقعدها تحت الشمس، إلا إذا تخلَّت عن هذه الخصلة الذَّميمة، خصلة الإسراف والتبذير، وعرَفت كيف تستخدم نعم الله تبارك وتعالى فيما يحبُّ الله.

الاعتدال واجب على الأمة:

هذا هو واجبنا، هذا هو ما علينا أن نعرفه، وهذا هو واجب الدعاة، وواجب المربِّين، وواجب المفكِّرين، واجبهم أن يُعَلِّموا الأمَّة خلق الاعتدال، وخلق التَّوسط، وبهذا تسعد الأمَّة، في الحديث: "ما عال مَن اقتصد"[13]. أي ما افتقر مَن اقتصد، مَن توسَّط واعتدل لن يفتقر، مَن يدَّخر من يومه لغده لا يفتقر، وصف الله المتَّقين بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]، أي لا ينفقون كلَّ ما رزقهم الله، ولكن ينفقون بعض ما رزقهم الله، وهذا هو الذي ينبغي لأمتنا ولمجتمعاتنا.

نسأل الله تعالى أن يفقِّهنا في ديننا، وأن يبصِّرنا بحقائقه، وأن يردَّنا إليه ردًّا جميلا. اللهم آمين.
ـــــــ

[1] رواه أحمد (17186) وقال مخرجوه: رجاله ثقات، والترمذي في الزهد (2380) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأطعمة (3349)، والحاكم في الرقاق (4/331)، وصححه ووافقه الذهبي، عن المقدام بن معدي كرب.

[2] متفق عليه: رواه البخاري في  الأطعمة (5393)، ومسلم في  الأشربة (2060)، عن ابن عمر.

[3] متفق عليه: رواه البخاري في الأطعمة (5397)، ومسلم في الأشربة (2063).

[4] رواه مسلم في الأشربة (2033).

[5] رواه مسلم في الأشربة (2034)، عن أنس.

[6] ذكره القرطبي في تفسيره (10/89).

[7] رواه مسلم في القدر (2664)، عن أبي هريرة.

[8] رواه أبو عوانة في الحدود (8514).

[9] إشارة إلى الحديث: " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم "، رواه أحمد (19502) وقال مخرجوه: صحيح بشواهده، والترمذي في اللباس (1720) وقال: حسن صحيح، والنسائي في الزينة (5148)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (209)، عن أبي موسي الأشعري.

[10] رواه أبو يعقوب القراب في فضائل الرمي في سبيل الله (15).

[11] جزء من حديث رواه مسلم في التوبة (2750).

[12] رواه الترمذي في صفة القيامة (2417) وقال: حسن صحيح، عن أبي برزة الأسلمي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (126).

[13] رواه أحمد (4269)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، وابن أبي شيبة في الأدب (27136)، والطبراني في الكبير(10/108)، والأوسط (5094)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (17848): رواه أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، وفي أسانيدهم إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف، عن عبد الله بن مسعود.