د. يوسف القرضاوي

مما يجب لفت الأنظار إليه في مجال الإصلاح: تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر، وتصحيح التصور، وتصويب منهج النظر والعمل. فهذا بلا ريب هو الأساس المكين لكل إصلاح يرتجى. إذ من غير المعقول أن يستقيم العمل على منهج سليم، والفكر غير مستقيم. كما قال الشاعر:

متى يستقيم الظل والعود أعوج؟

فمن ساء تصوره لأمر ما، فالمتوقع أن يسوء سلوكه في شأنه، فإن السلوك أثر للتصور، حسنا أو قبحا.

ومن هنا كانت المعركة الفكرية ـ التي تعنى بتصحيح الأفكار المعوجة، والمفاهيم المغلوطة ـ لها الأولوية وحق التقديم على غيرها. وهو ضرب من "الجهاد الكبير" بالقرآن، الذي ذكرته سورة الفرقان المكية، ومن الجهاد باللسان والبيان، الذي ذكره الحديث النبوي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".

وللمعركة الفكرية مجالان أساسيان:

الأول: خارج الساحة الإسلامية، مع الملاحدة والمنصرين والمستشرقين الذين يهاجمون الإسلام: عقيدة وشريعة، وتراثا وحضارة، ويحاربون أي نهضة أو بعث على أساس الإسلام.

والثاني: داخل الساحة الإسلامية نفسها، لتصحيح الاتجاه في فصائل العمل الإسلامي، وترشيد مسيرته، وتصويب حركته، حتى تسير في الطريق الصحيح للهدف الصحيح. وسنقصر الحديث عليه، فإن إصلاح الداخل هو الأساس، وله الأولوية.

فما لا شك فيه أن لدينا تيارات عدة، منها:

التيار الخرافي

التيار أو التوجه الخرافي، الذي يقوم على أسس أو خصائص يتفرد بها، منها:

أ. الخرافة في الاعتقاد.

ب. الابتداع في العبادة.

ج.الجمود في الفكر.

د. التقليد في الفقه.

هـ. السلبية في السلوك.

و. المسايرة أو المداهنة في السياسة.

التيار الحرْفي

وهناك التيار أو التوجه الحرفي، وهذا له ـ رغم تشدده في أمر الدين ودفاعه عنه ـ خصائص غلبت على أكثر أتباعه تميزه أيضا، منها:

أ. الجدلية في العقيدة.

ب. الشكلية في العبادة.

ج. الظاهرية في الفقه.

د. الجزئية في الاهتمام.

هـ. الجفاف في الروح.

و. الخشونة في الدعوة.

ز. الضيق بالخلاف .

تيار الرفض والعنف

وهناك التوجه الذي يقوم على رفض المجتمع كله بجميع مؤسساته، وله ـ رغم تميز جل أفراده بالحماس والإخلاص ـ خصائصه أيضا، منها:

أ. الشدة والصرامة في الالتزام بالدين.

ب. الاعتزاز بالذات اعتزازا يؤدي إلى نزعة الاستعلاء على المجتمع.

ج. سوء الظن بالآخرين جميعا.

د. ضيق الأفق في فهم الدين، وفهم الواقع، وفهم السنن الكونية والاجتماعية.

هـ. استعجال الأشياء قبل أوانها.

و. المسارعة إلى التكفير بغير تحفظ.

ز. اتخاذ القوة سبيلا إلى تحقيق الأهداف.

التيار الوسطي

وهناك التيار الوسطي، الذي يقوم على التوازن والوسطية في فهم الدين والحياة والعمل لتمكين الدين، وله خصائص أيضا تميزه عن سواه، منها تأكيده وتركيزه على المبادئ التالية:

أ. فقهه للدين فقها يتميز بالشمول والاتزان والعمق.

ب. فقهه لواقع الحياة دون تهوين ولا تهويل: واقع المسلمين، وواقع أعدائهم.

ج. فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل، وخصوصا سنن الإجماع البشري.

د. فقه مقاصد الشريعة وعدم الجمود على ظواهرها.

هـ. فقه الأولويات، وهو مرتبط بفقه الموازنات.

و. فقه الاختلاف وأدبه مع الفصائل الإسلامية الأخرى (التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف فيه).

ز. الجمع بين السلفية والتجديد (أو بين الأصالة والمعاصرة).

ح. الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.

ط. الإيمان بأن التغيير الفكري والنفسي والخلقي أساس كل تغيير حضاري.

ي. تقدير الإسلام مشروعا حضاريا متكاملا، لبعث الأمة، وإنقاذ البشرية من الفلسفات المادية المعاصرة.

ك. اتخاذ منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.

ل. إبراز القيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام، مثل: الحرية والكرامة والشورى والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

م. الحوار بالحسنى مع الآخر، أي مع المخالفين من غير المسلمين، أو من المسلمين المغزوين عقليا، والمهزومين روحيا.

ن. اتخاذ الجهاد سبيلا للدفاع عن حرمات المسلمين وديار الإسلام.

وهذا هو التيار الذي نؤمن به، وندعو إليه، ونعتبر أنه هو المعبر الحقيقي عن الإسلام، كما أنزله الله في كتابه، وكما هدى إليه رسوله في سنته وسيرته، وكما فهمه وطبقه الراشدون المهديون من أصحابه، وكما فقهه التابعون لهم بإحسان من خير قرون هذه الأمة.

ــــــــ

- عن كتاب "في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ.